إن إثارة مسألة التنمية البيئية المستدامة في هذا العصر مسألة لا مفر منها لما تعرفه البيئة من تدهور يهدد الكائنات الحية من وحيش ونبات على المدى القريب أو المتوسط، ويهدد كذلك الوجود البشري على المدى البعيد، وبالتالي نحن أمام أزمة كونية تتخطى الحدود الترابية للدول وتتعدى الإطارات الإيديولوجية على اختلاف مشاربها وتطلعاتها.
انطلاقا من هذا الاعتبار ينبثق مفهوم شمولي للبيئة يرى فيها كلية لا تقبل التجزيء، ومعضلة تتطلب حلول عقلانية نبحث من خلالها في المصير المشترك الذي يتعذر علينا التخطيط له وبنائه دون التخطيط للبيئة وإعادة بنائها بشكل سليم يمنح الحياة لا الموت، تلك هي التنمية التي نتحدث عنها ونأملها، تنمية للجميع، تنمية للإنسان وبيئته لا تنمية نفعوية مادية تتلاعب بالمصطلحات لتزييف واقعها المأزوم وإيهام المواطن بخير ما تتضمنه وتقدمه، رغم أن الواقع يناقض ما تدعيه ويعريه. في سياق هذا التهديد السافر لوجود الإنسان تطرح التنمية البيئية كرهان دولي يتأرجح بين قراءات دقيقة وعميقة وأخرى عامة وسطحية، هذه القراءات هي مصدر انبثاق واقع وخطاب التنمية البيئية.
وحري بنا أن نشير إلى أن أوجه التنمية تختلف، ولكل وجه نجد قراءة ومفهوم معين حسب مرجعياته وغاياته، فهناك "التنمية الاقتصادية" التي تبلورت مع نهاية الحرب العالمية الثانية كخطوة لاسترداد العافية الاقتصادية بأوربا، كما نجد "التنمية الاجتماعية" والتي طرحت كحل لسد ثغرة النمط التنموي الاقتصادي، ثم "التنمية المجالية، أو التنمية الميكرومجالية" والتي جاءت كآلية لتركيب النمطين السابقين باعتبارها تصور أفقي يشمل كافة مكونات المجال، إضافة إلى "التنمية المحلية أو التنمية الميكرومجالية" ويهدف هذا النموذج للجواب على سؤال الاقتصاد المحلي، لذلك يعتبر شكل معتبر للنمو الاقتصادي الداخلي، ونجد أيضا "التنمية الترابية" وهي نمط تنموي حديث يروم للبحث في أدق المؤهلات المجالية كما أنه دعوة لتشخيص التراب وتثمين التراث ورد الاعتبار للهوية المحلية في أبعادها التنموية. كما يمكننا أن نتحدث عن أنماط تنموية أخرى قليل ما نسمع بها نظرا لحساسيتها وثانويتها بالنسبة للمنظرين والقيمين على الشأن التنموي، من قبيل التنمية الثقافية والتي تعنى بالشأن الثقافي القيمي، وذلك من خلال وضع استراتيجيات تنموية بعيدة المدى للتعليم والإعلام على سبيل المثال لا الحصر، بهده إكساب المجتمع قدرة على إعادة بناء ثقافته من قيم وقناعات، وتوجيه المجتمع أكثر لما يسمى "مجتمع المعرفة"، وإلى جانب هذا الشكل التنموي يمكننا الحديث أيضا على التنمية السياسية، باعتبارها أساس الانتقال الديمقراطي وتصور المشروع المجتمعي وتنزيله، إلا أن هذا النمط التنموي يعتبر نمطا محرما ببلداننا العربية.
وفي إطار حديثنا عن التنمية يجب أن نحذر الوقوع في أي لبس معرفي وخلط مفاهيمي، فالتنمية هي مفهوم حديث كما أشرنا سالفا، وبذلك فهي تختلف عن النمو الذي يعد جزءا من العملية التنموية الشاملة، فإذا كان النمو يحيل على التقدم والتطور الذي كثيرا ما يكون حاضرا في غياب التنمية لأنه يعبر عن الزيادة الكمية، فإن التنمية في معناها الأصيل تطور كيفي وكمي، كما أن النمو ينتج عن تخطيط وإنجاز السلطات العمومية، بخلاف التنمية التي تتسم بكونها عملية حضارية تستلزم إشراك الجميع من إدارات على اختلاف اهتماماتها ومواطنين على تنوع طبقاتهم، مع إدماج المجال ككل في البرامج التنموية، فلا مكان للخطاب الإقصائي أو العمل وفق مبدأ المركز والهامش، ومن تم فالتنمية هي دعوة عاجلة للعدالة الاجتماعية والعدالة المجالية، مما يعني أنها شكل من أشكال الديمقراطية وعلامة بارزة على وجودها أو عدمها.
ولابد أن نشير إلى أن مفهوم التنمية تطور بشكل كبير وأصبح مفهوما دقيقا يصعب تزييفه، حيث أدمج بالبعد البيئي من خلال مفهوم "التنمية المستدامة" التي تشكل سلسلة خطوات متعددة ومترابطة فيما بينها على المدى البعيد تبتدئ بالتشخيص الاستراتيجي وتنتهي بالإنجاز التوافقي اعتمادا على مقاربة تشاركية، بهدف تحسن مستوى عيش السكان ومحيطهم بشكل لا يضر الأجيال القادمة وباقي الكائنات الحية.
كما رأينا فأوجه التنمية تتعدد لكنها تعبر في عمقها عن نفس الرهانات والانشغالات والطموحات، وانطلاقا مما سبق نستنتج أن مفهوم البيئة كان غائب عن التداول كمفهوم مركزي ومعنى ذلك أنه مفهوم تابع أو تكميلي وليس أساسي، هذا الوضع انعكس على واقع البيئة خلال النصف الثاني من القرن الماضي التي ظلت كشق تكميلي نخبوي لسنوات طويلة، رغم ما نص عليه مؤتمر "استوكهولم" للبيئة سنة 1972 حيث عرفها على أنها "كل ما يحيط بالإنسان" وبالتالي فالبيئة تشمل الطبيعة التي تحيط بالإنسان وتشمل كذلك الإنسان وتأثيراته المقصودة والعفوية بمختلف أشكالها، إلا أن هذا الانفتاح لم يكن كافيا لتنزيل مقتضيات التنمية البيئية، وانطلاقا من هذا المؤتمر الذي شكل ولادة القانون الدولي للبيئية لوحظ تراكم سريع للوعي بالمشاكل البيئية وأخطارها المحدقة بالأرض، واستمرت هذه المساعي إلى أن توجت بمؤتمر "ري ودي جانيرو" بالبرازيل سنة 1992 تحت شعار "التنمية السليمة" أو ما يعرف بالتنمية المستدامة والقطاع البيئي، ومن تم تحولت البيئة بالتدريج لشق تنموي أساسي، وبذلك فقد تمت أنسنة البيئة والتنمية انطلاقا من مفهوم الحق في جودة الحياة، وقد استمر هذا الاهتمام غير المسبوق عبر عدد من المحطات البيئية، من ملتقيات ومؤتمرات، كمؤتمر جوهانسبورغ بجنوب إفريقيا سنة 2002 الذي عقد تحت شعار "استراتيجية النمو المستدام"، إلا أن أهم محطة بيئية في هذا العصر على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" هي مؤتمر "ريو+20" الذي عقد في يونيو 2012 ، والذي اعتبر "خطة التنمية المستدامة هي خطة النمو من أجل القرن 21"، إلا أن هذا المؤتمر رغم الآمال العريضة التي انتظرت تبلور وثيقته فلم يبلغ تلك التطلعات، فوثيقته لا تساعد على تسريع الإصلاح البيئي بالشكل المطلوب، لكن الجديد في الأمر هو الاعتراف بالاقتصاد الأخضر كوسيلة لتحقيق التنمية المتواصلة كما أنه دعى إلى حكمنة البيئة بشكل متقدم، وهذا في حد ذاته اعتراف دولي بخطورة الأزمة وكذلك توافق دولي في سبيل البحث عن الحلول الكفيلة بالحد من الفقر وتنمية البيئة.
ومن تم طرح مفهوم التنمية البيئية المستدامة الذي لازال في مهده لحد الآن من حيث واقع التفعيل، فعلى المستوى الدولي يعرف المفهوم من حيث تطبيقاته نزرا متناثرا ببعض الدول المتقدمة، كالدول الإيسكندنافية التي تعتبر نموذج تنموي بيئي رائد، أما الدول "المتخلفة" فهي غالبا ما تختار تنميق الخطابات الرسمية والترويج إعلاميا لهذه المفاهيم التي ترتبط في مجملها بالأنظمة الديمقراطية لا الأنظمة الانغلاقية الاستبدادية.
للخروج من إطار المفهوم والتنظير له، يجب علينا البحث عن محددات واقع البيئة والبحث في تجليات ذلك الواقع، عبر تتبع أثر الخطابات البيئية باعتبارها خطوة أولى نحو مأسسة التنمية البيئية المستدامة، لكن هذه الخطابات كثيرا ما لا تعبر عن جوهر التوجهات، فالوعود البيئية كثيرة ومتعددة لكنها خاضعة بالدرجة الأولى للمستوى الاقتصادي لكل دولة، حيث يتسع سقف الوعود حسب سقف التقدم، ناهيك عن امتطاء القضية البيئية لبلوغ غايات معينة كثيرا ما تضرب في صلب التنمية وتمنع تنزيل الحكامة المنشودة.
ولا شك أن محددات الواقع البيئي مترابطة فيما بينها حيث أنها تنضوي في مجملها تحت درجة التقدم، فكلما ارتقت الدول في سلم التقدم انعكس ذلك إيجابيا على واقع البيئة وكلما تخلفت انعكس ذلك أيضا على واقع البيئة لكن بشكل سلبي، إلا أن هذه القاعدة كثيرا ما تخترق من عدة دول متقدمة توجد في قمة الهرم العالمي أو دول متخلفة توجد في أدنى هذا الهرم، وقبل إثارة هذه الاستثناءات حري بنا أن نحاول تقديم نقاش مبسط لهذه المحددات.
وأول محدد هو الدخل القومي لكل دولة، إذ أن الدول التي تتميز بدخل مرتفع غالبا ما تتميز ببيئة في حالة مقبولة ولا نقل جيدة، كدول أوربا الغربية، وسبب ذلك هو غنى هذه الدول وتخصيصها نسب هامة من دخلها الإجمالي للبرامج البيئية، أما الدول التي تتميز بدخل منخفض فهي تعرف وضعا بيئيا متدهورا سواء على المستوى الحضري أو القروي، لأن دخلها الضعيف لا يسمح لها بالاستثمار في البيئة كما أنها تبخس مواردها وتعمل على استنزافها مقابل سد الحاجيات الاجتماعية الضرورية، مع العلم بحجم الفساد الهائل بهذه الدول مما يجعل مصلحة الأشخاص فوق مصلحة الأوطان.
أما ثاني هذه المحددات فهو ذلك المتعلق بصحة التعليم، وهنا نقصد البحث العلمي البيئي والثقافة البيئية، فهذان المعطيان يرتبطان بشكل جدلي بالتعليم، حيث أن الدول التي تتميز بتعليم جيد ذو مستوى عالي ضمنيا تحوز مراتب متقدمة من حيث البحث العلمي البيئي، هذا بالطبع ينعكس على واقع البرامج ويمنحها ثقة مجتمعية ودولية، أما على مستوى الثقافة البيئية فالوضع لا يختلف كثيرا إذ أن كلما قلت نسبة الأمية اتسع مدى الوعي البيئي، وضمنيا هذا الوعي يتبلور في سلوكيات الأفراد على اختلاف مواقعهم وأدوارهم.
وأظن أن هذه المحددات معلومة للجميع، لذلك لن نطيل في مناقشتها وسنمر في سياق حديثنا عنها، لتوضيح تلك الاستثناءات البيئية، والتي تخص دول عظمى كالولايات المتحدة والصين، حيث أن تقدم هذه الدول المتميزة بدخل مرتفع وتعليم جيد لا ينعكس على راهن البيئة بل في كثير من الأحيان يضر بها، ويمكن أن نعزي هذا الإشكال لطغيان الباركماتية الاقتصادية على هاتين الحالتين، أما من حيث الثقافة البيئية فيلاحظ وعي بيئي كبير يطبع المجتمع. بالنسبة للاستثناء الثاني فيخص الدول الهامشية التي لا تزال خارج فلك العولمة كبعض الدول الآسيوية والإفريقية، فرغم دخلها القومي الضعيف وتعليمها المتردي، يلاحظ أنها تعرف حالة شبه طبيعية على المستوى البيئي ولو بشكل نسبي وتشكل مجالاتها المناطق العذراء بيئيا، ويمكن أن نفسر هذا بكون هذه الدول معزولة عن الأقاليم الدولية الأكثر دينامية من جهة وبالتالي تحتفظ بالعقلية التقليدية وتطغى عليها من حيث الثقافة الأعراف والقيم المحلية، مما لا يؤثر في العلاقة العضوية بين الإنسان والموارد الطبيعة، ومن جهة ثانية نسجل التوازن البيئي - الديموغرافي، إذ أنها لا تعرف الثقل الديموغرافي الذي تعرفه باقي مناطق العالم كحالة حوض البحر الأبيض المتوسط.
من خلال ما سبق تتجلى العلاقة الرابطة بين التنمية والبيئة، هذه العلاقة هي نتاج لتاريخ اقتصادي وسوسيوثقافي طويل، وطبعا هي علاقة منطقية وشاذة في الآن نفسه، منطقية باعتبار أن درجة التقدم تعد مدخلا لحماية البيئة، وشاذة نظرا لرقي مفهوم التنمية وإلباسه أبعاد كونية تناقض الواقع، وشذوذها يظهر أيضا حضور بعض الاستثناءات والتي أشرت لبعضها.
تقودنا هذه الاستثناءات لنبش خطاب البيئة وحدود أجرته، حيث أنه عرف مستويات متقدمة من التعبير عن الأزمة، إلا أنه مدعاة لتزييف الواقع البيئي وتضليل الوعي المدني الدولي ، لما يتضمن من ولاء للإيديولوجيات وحرص على المصالح، وتحميل مسؤوليات الأزمة البيئية للدول المتخلفة التي تؤكد هي الأخرى عن مطلب التنمية الاقتصادية للحد من ظاهرة الفقر التي تهدد سلمها الاجتماعي، وهذه الدول نفسها تحاول جاهدة ترويج خطاب بيئي مزعوم ظاهره يخدم البيئة والمجتمع وباطنه يلبي حاجيات أشخاص معينين وقطاعات معينة ومجالات محددة، وليس المغرب إلا مثالا لهذه الحالة حيث نجد الواقع البيئي يضرب في عمق الخطاب، وإن كانت مجهودات عدة قد بدلت فالتصور العام تعتريه انتقائية مجالية ترتبط أكثر بالتوجيهات الخارجية من إرادة المصالح المغربية المعنية بالشأن البيئي، وهذا بالضبط ما نلاحظه حيث تمكنت بعض الشركات الدولية الملتزمة ببعض الشروط البيئية من إرساء قواعد صناعة بيئية، كشركة "رونو الفرنسية" التي تنتج بعض السيارات الصديقة للبيئة، وكذلك استثمارات الألمان في الطاقات المتجددة، بالإضافة إلى فتح أوراش اقتصادية كبرى تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد التنموية البيئية، كالقطاع السياحي الذي خرج من دفة التصور الاقتصادي للتنمية لصالح الرؤية البيئية للتنمية، وفي هذا الشأن فالمخططات السياحية المغربية "رؤية 2020" و"سيناريوهات 2030 " تستمد مقتضياتها من الموجة البيئية الدولية المتمثلة في التوجه أكثر للتنمية المستدامة.
إلا أن هذه التوجهات المغربية التي تعد استجابة لمتطلبات ولوج فضاء الاقتصاد الأوربي بشكل خاص والعالمي بشكل عام، تخفي ورائها تناقضا صارخا يشكك في هذه الادعاءات البيئية، ويجعل الخطاب البيئي الرسمي على المحك، إذ أننا نلاحظ بوضوح تسارع تدهور البيئات المحلية الحضرية خصوصا بالمراكز الحضرية والمدن الصغرى وحتى المتوسطة، وكذلك على المستوى القروي يشهد المغرب مشاكل بيئية مستعصية الحل، وعلى سبيل المثال لا الحصر يعرف وادي "سبو" الواقع بالداخل المغربي تلوثا شديدا بالقرب من مدينة فاس، حيث تفرغ فيه أنواع متعددة من الملوثات مما يزيد من حدة فقدان جودته ويهدد صلاحيته لأغراضه الأصلية، حيث أن هذا الوادي هو مصدر السقي بالنسبة لسهول شاسعة بكل من سايس والغرب، وبالتالي حدوث دورة تلوث ترجع للمصدر وللمنتج وهو بلا شك "الإنسان"، ويمكن أن نورد أمثلة متعددة عن أنماط التنمية غير البيئية بالمغرب، وليست تنمية الصناعة التقليدية إلا مثالا قاطعا عن هذه التنمية المشوهة، إذ أكدت بعض التقارير البيئية أن قطاع الصناعة التقليدية هو أكثر القطاعات تلويثا لمدينة فاس، ناهيك عن استنزاف بعض الموارد الطبيعية كالغطاء النباتي، خصوصا بالمغرب العميق الذي يعرف تدهورا بيئيا حادا في وقت لا تفي تدخلات الدولة إن وجدت بالحد من ظاهرة التدهور البيئي، ويكمن أن نفسر هذا الواقع بغياب رؤية واضحة وتخطيط استراتيجي بعيد المدى مع التعامل بمنطق الأفضلية المجالية والانتقاء الترابي مما يجعل العدالة المجالية مفهوم بعيد عن الممارسة والتفعيل.
إن استحضارنا للحالة البيئية المغربية هو محاولة لتسليط الضوء عن راهن البيئة بالدول العربية، وانطلاقا من إلمامنا بواقع البيئة المغربية يمكننا الجزم أن مفهوم التنمية البيئية المستدامة لازال في مخاضاته الأولية من حيث التداول الدقيق التفعيل الحقيقي، لذلك فإننا نحتاج إلى بحث علمي جاد يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية على اختلاف تجلياتها.
وبالتالي نحن أمام نموذجين تنمويين، الأول يبحث في التجديد والتجويد وهو طبعا الخاص بالدول المتقدمة، أما الثاني فيكتفي بالتقليد والتأييد وبلا شك هو حال الدول المتخلفة.
انطلاقا من هذا الاعتبار ينبثق مفهوم شمولي للبيئة يرى فيها كلية لا تقبل التجزيء، ومعضلة تتطلب حلول عقلانية نبحث من خلالها في المصير المشترك الذي يتعذر علينا التخطيط له وبنائه دون التخطيط للبيئة وإعادة بنائها بشكل سليم يمنح الحياة لا الموت، تلك هي التنمية التي نتحدث عنها ونأملها، تنمية للجميع، تنمية للإنسان وبيئته لا تنمية نفعوية مادية تتلاعب بالمصطلحات لتزييف واقعها المأزوم وإيهام المواطن بخير ما تتضمنه وتقدمه، رغم أن الواقع يناقض ما تدعيه ويعريه. في سياق هذا التهديد السافر لوجود الإنسان تطرح التنمية البيئية كرهان دولي يتأرجح بين قراءات دقيقة وعميقة وأخرى عامة وسطحية، هذه القراءات هي مصدر انبثاق واقع وخطاب التنمية البيئية.
وحري بنا أن نشير إلى أن أوجه التنمية تختلف، ولكل وجه نجد قراءة ومفهوم معين حسب مرجعياته وغاياته، فهناك "التنمية الاقتصادية" التي تبلورت مع نهاية الحرب العالمية الثانية كخطوة لاسترداد العافية الاقتصادية بأوربا، كما نجد "التنمية الاجتماعية" والتي طرحت كحل لسد ثغرة النمط التنموي الاقتصادي، ثم "التنمية المجالية، أو التنمية الميكرومجالية" والتي جاءت كآلية لتركيب النمطين السابقين باعتبارها تصور أفقي يشمل كافة مكونات المجال، إضافة إلى "التنمية المحلية أو التنمية الميكرومجالية" ويهدف هذا النموذج للجواب على سؤال الاقتصاد المحلي، لذلك يعتبر شكل معتبر للنمو الاقتصادي الداخلي، ونجد أيضا "التنمية الترابية" وهي نمط تنموي حديث يروم للبحث في أدق المؤهلات المجالية كما أنه دعوة لتشخيص التراب وتثمين التراث ورد الاعتبار للهوية المحلية في أبعادها التنموية. كما يمكننا أن نتحدث عن أنماط تنموية أخرى قليل ما نسمع بها نظرا لحساسيتها وثانويتها بالنسبة للمنظرين والقيمين على الشأن التنموي، من قبيل التنمية الثقافية والتي تعنى بالشأن الثقافي القيمي، وذلك من خلال وضع استراتيجيات تنموية بعيدة المدى للتعليم والإعلام على سبيل المثال لا الحصر، بهده إكساب المجتمع قدرة على إعادة بناء ثقافته من قيم وقناعات، وتوجيه المجتمع أكثر لما يسمى "مجتمع المعرفة"، وإلى جانب هذا الشكل التنموي يمكننا الحديث أيضا على التنمية السياسية، باعتبارها أساس الانتقال الديمقراطي وتصور المشروع المجتمعي وتنزيله، إلا أن هذا النمط التنموي يعتبر نمطا محرما ببلداننا العربية.
وفي إطار حديثنا عن التنمية يجب أن نحذر الوقوع في أي لبس معرفي وخلط مفاهيمي، فالتنمية هي مفهوم حديث كما أشرنا سالفا، وبذلك فهي تختلف عن النمو الذي يعد جزءا من العملية التنموية الشاملة، فإذا كان النمو يحيل على التقدم والتطور الذي كثيرا ما يكون حاضرا في غياب التنمية لأنه يعبر عن الزيادة الكمية، فإن التنمية في معناها الأصيل تطور كيفي وكمي، كما أن النمو ينتج عن تخطيط وإنجاز السلطات العمومية، بخلاف التنمية التي تتسم بكونها عملية حضارية تستلزم إشراك الجميع من إدارات على اختلاف اهتماماتها ومواطنين على تنوع طبقاتهم، مع إدماج المجال ككل في البرامج التنموية، فلا مكان للخطاب الإقصائي أو العمل وفق مبدأ المركز والهامش، ومن تم فالتنمية هي دعوة عاجلة للعدالة الاجتماعية والعدالة المجالية، مما يعني أنها شكل من أشكال الديمقراطية وعلامة بارزة على وجودها أو عدمها.
ولابد أن نشير إلى أن مفهوم التنمية تطور بشكل كبير وأصبح مفهوما دقيقا يصعب تزييفه، حيث أدمج بالبعد البيئي من خلال مفهوم "التنمية المستدامة" التي تشكل سلسلة خطوات متعددة ومترابطة فيما بينها على المدى البعيد تبتدئ بالتشخيص الاستراتيجي وتنتهي بالإنجاز التوافقي اعتمادا على مقاربة تشاركية، بهدف تحسن مستوى عيش السكان ومحيطهم بشكل لا يضر الأجيال القادمة وباقي الكائنات الحية.
كما رأينا فأوجه التنمية تتعدد لكنها تعبر في عمقها عن نفس الرهانات والانشغالات والطموحات، وانطلاقا مما سبق نستنتج أن مفهوم البيئة كان غائب عن التداول كمفهوم مركزي ومعنى ذلك أنه مفهوم تابع أو تكميلي وليس أساسي، هذا الوضع انعكس على واقع البيئة خلال النصف الثاني من القرن الماضي التي ظلت كشق تكميلي نخبوي لسنوات طويلة، رغم ما نص عليه مؤتمر "استوكهولم" للبيئة سنة 1972 حيث عرفها على أنها "كل ما يحيط بالإنسان" وبالتالي فالبيئة تشمل الطبيعة التي تحيط بالإنسان وتشمل كذلك الإنسان وتأثيراته المقصودة والعفوية بمختلف أشكالها، إلا أن هذا الانفتاح لم يكن كافيا لتنزيل مقتضيات التنمية البيئية، وانطلاقا من هذا المؤتمر الذي شكل ولادة القانون الدولي للبيئية لوحظ تراكم سريع للوعي بالمشاكل البيئية وأخطارها المحدقة بالأرض، واستمرت هذه المساعي إلى أن توجت بمؤتمر "ري ودي جانيرو" بالبرازيل سنة 1992 تحت شعار "التنمية السليمة" أو ما يعرف بالتنمية المستدامة والقطاع البيئي، ومن تم تحولت البيئة بالتدريج لشق تنموي أساسي، وبذلك فقد تمت أنسنة البيئة والتنمية انطلاقا من مفهوم الحق في جودة الحياة، وقد استمر هذا الاهتمام غير المسبوق عبر عدد من المحطات البيئية، من ملتقيات ومؤتمرات، كمؤتمر جوهانسبورغ بجنوب إفريقيا سنة 2002 الذي عقد تحت شعار "استراتيجية النمو المستدام"، إلا أن أهم محطة بيئية في هذا العصر على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" هي مؤتمر "ريو+20" الذي عقد في يونيو 2012 ، والذي اعتبر "خطة التنمية المستدامة هي خطة النمو من أجل القرن 21"، إلا أن هذا المؤتمر رغم الآمال العريضة التي انتظرت تبلور وثيقته فلم يبلغ تلك التطلعات، فوثيقته لا تساعد على تسريع الإصلاح البيئي بالشكل المطلوب، لكن الجديد في الأمر هو الاعتراف بالاقتصاد الأخضر كوسيلة لتحقيق التنمية المتواصلة كما أنه دعى إلى حكمنة البيئة بشكل متقدم، وهذا في حد ذاته اعتراف دولي بخطورة الأزمة وكذلك توافق دولي في سبيل البحث عن الحلول الكفيلة بالحد من الفقر وتنمية البيئة.
ومن تم طرح مفهوم التنمية البيئية المستدامة الذي لازال في مهده لحد الآن من حيث واقع التفعيل، فعلى المستوى الدولي يعرف المفهوم من حيث تطبيقاته نزرا متناثرا ببعض الدول المتقدمة، كالدول الإيسكندنافية التي تعتبر نموذج تنموي بيئي رائد، أما الدول "المتخلفة" فهي غالبا ما تختار تنميق الخطابات الرسمية والترويج إعلاميا لهذه المفاهيم التي ترتبط في مجملها بالأنظمة الديمقراطية لا الأنظمة الانغلاقية الاستبدادية.
للخروج من إطار المفهوم والتنظير له، يجب علينا البحث عن محددات واقع البيئة والبحث في تجليات ذلك الواقع، عبر تتبع أثر الخطابات البيئية باعتبارها خطوة أولى نحو مأسسة التنمية البيئية المستدامة، لكن هذه الخطابات كثيرا ما لا تعبر عن جوهر التوجهات، فالوعود البيئية كثيرة ومتعددة لكنها خاضعة بالدرجة الأولى للمستوى الاقتصادي لكل دولة، حيث يتسع سقف الوعود حسب سقف التقدم، ناهيك عن امتطاء القضية البيئية لبلوغ غايات معينة كثيرا ما تضرب في صلب التنمية وتمنع تنزيل الحكامة المنشودة.
ولا شك أن محددات الواقع البيئي مترابطة فيما بينها حيث أنها تنضوي في مجملها تحت درجة التقدم، فكلما ارتقت الدول في سلم التقدم انعكس ذلك إيجابيا على واقع البيئة وكلما تخلفت انعكس ذلك أيضا على واقع البيئة لكن بشكل سلبي، إلا أن هذه القاعدة كثيرا ما تخترق من عدة دول متقدمة توجد في قمة الهرم العالمي أو دول متخلفة توجد في أدنى هذا الهرم، وقبل إثارة هذه الاستثناءات حري بنا أن نحاول تقديم نقاش مبسط لهذه المحددات.
وأول محدد هو الدخل القومي لكل دولة، إذ أن الدول التي تتميز بدخل مرتفع غالبا ما تتميز ببيئة في حالة مقبولة ولا نقل جيدة، كدول أوربا الغربية، وسبب ذلك هو غنى هذه الدول وتخصيصها نسب هامة من دخلها الإجمالي للبرامج البيئية، أما الدول التي تتميز بدخل منخفض فهي تعرف وضعا بيئيا متدهورا سواء على المستوى الحضري أو القروي، لأن دخلها الضعيف لا يسمح لها بالاستثمار في البيئة كما أنها تبخس مواردها وتعمل على استنزافها مقابل سد الحاجيات الاجتماعية الضرورية، مع العلم بحجم الفساد الهائل بهذه الدول مما يجعل مصلحة الأشخاص فوق مصلحة الأوطان.
أما ثاني هذه المحددات فهو ذلك المتعلق بصحة التعليم، وهنا نقصد البحث العلمي البيئي والثقافة البيئية، فهذان المعطيان يرتبطان بشكل جدلي بالتعليم، حيث أن الدول التي تتميز بتعليم جيد ذو مستوى عالي ضمنيا تحوز مراتب متقدمة من حيث البحث العلمي البيئي، هذا بالطبع ينعكس على واقع البرامج ويمنحها ثقة مجتمعية ودولية، أما على مستوى الثقافة البيئية فالوضع لا يختلف كثيرا إذ أن كلما قلت نسبة الأمية اتسع مدى الوعي البيئي، وضمنيا هذا الوعي يتبلور في سلوكيات الأفراد على اختلاف مواقعهم وأدوارهم.
وأظن أن هذه المحددات معلومة للجميع، لذلك لن نطيل في مناقشتها وسنمر في سياق حديثنا عنها، لتوضيح تلك الاستثناءات البيئية، والتي تخص دول عظمى كالولايات المتحدة والصين، حيث أن تقدم هذه الدول المتميزة بدخل مرتفع وتعليم جيد لا ينعكس على راهن البيئة بل في كثير من الأحيان يضر بها، ويمكن أن نعزي هذا الإشكال لطغيان الباركماتية الاقتصادية على هاتين الحالتين، أما من حيث الثقافة البيئية فيلاحظ وعي بيئي كبير يطبع المجتمع. بالنسبة للاستثناء الثاني فيخص الدول الهامشية التي لا تزال خارج فلك العولمة كبعض الدول الآسيوية والإفريقية، فرغم دخلها القومي الضعيف وتعليمها المتردي، يلاحظ أنها تعرف حالة شبه طبيعية على المستوى البيئي ولو بشكل نسبي وتشكل مجالاتها المناطق العذراء بيئيا، ويمكن أن نفسر هذا بكون هذه الدول معزولة عن الأقاليم الدولية الأكثر دينامية من جهة وبالتالي تحتفظ بالعقلية التقليدية وتطغى عليها من حيث الثقافة الأعراف والقيم المحلية، مما لا يؤثر في العلاقة العضوية بين الإنسان والموارد الطبيعة، ومن جهة ثانية نسجل التوازن البيئي - الديموغرافي، إذ أنها لا تعرف الثقل الديموغرافي الذي تعرفه باقي مناطق العالم كحالة حوض البحر الأبيض المتوسط.
من خلال ما سبق تتجلى العلاقة الرابطة بين التنمية والبيئة، هذه العلاقة هي نتاج لتاريخ اقتصادي وسوسيوثقافي طويل، وطبعا هي علاقة منطقية وشاذة في الآن نفسه، منطقية باعتبار أن درجة التقدم تعد مدخلا لحماية البيئة، وشاذة نظرا لرقي مفهوم التنمية وإلباسه أبعاد كونية تناقض الواقع، وشذوذها يظهر أيضا حضور بعض الاستثناءات والتي أشرت لبعضها.
تقودنا هذه الاستثناءات لنبش خطاب البيئة وحدود أجرته، حيث أنه عرف مستويات متقدمة من التعبير عن الأزمة، إلا أنه مدعاة لتزييف الواقع البيئي وتضليل الوعي المدني الدولي ، لما يتضمن من ولاء للإيديولوجيات وحرص على المصالح، وتحميل مسؤوليات الأزمة البيئية للدول المتخلفة التي تؤكد هي الأخرى عن مطلب التنمية الاقتصادية للحد من ظاهرة الفقر التي تهدد سلمها الاجتماعي، وهذه الدول نفسها تحاول جاهدة ترويج خطاب بيئي مزعوم ظاهره يخدم البيئة والمجتمع وباطنه يلبي حاجيات أشخاص معينين وقطاعات معينة ومجالات محددة، وليس المغرب إلا مثالا لهذه الحالة حيث نجد الواقع البيئي يضرب في عمق الخطاب، وإن كانت مجهودات عدة قد بدلت فالتصور العام تعتريه انتقائية مجالية ترتبط أكثر بالتوجيهات الخارجية من إرادة المصالح المغربية المعنية بالشأن البيئي، وهذا بالضبط ما نلاحظه حيث تمكنت بعض الشركات الدولية الملتزمة ببعض الشروط البيئية من إرساء قواعد صناعة بيئية، كشركة "رونو الفرنسية" التي تنتج بعض السيارات الصديقة للبيئة، وكذلك استثمارات الألمان في الطاقات المتجددة، بالإضافة إلى فتح أوراش اقتصادية كبرى تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد التنموية البيئية، كالقطاع السياحي الذي خرج من دفة التصور الاقتصادي للتنمية لصالح الرؤية البيئية للتنمية، وفي هذا الشأن فالمخططات السياحية المغربية "رؤية 2020" و"سيناريوهات 2030 " تستمد مقتضياتها من الموجة البيئية الدولية المتمثلة في التوجه أكثر للتنمية المستدامة.
إلا أن هذه التوجهات المغربية التي تعد استجابة لمتطلبات ولوج فضاء الاقتصاد الأوربي بشكل خاص والعالمي بشكل عام، تخفي ورائها تناقضا صارخا يشكك في هذه الادعاءات البيئية، ويجعل الخطاب البيئي الرسمي على المحك، إذ أننا نلاحظ بوضوح تسارع تدهور البيئات المحلية الحضرية خصوصا بالمراكز الحضرية والمدن الصغرى وحتى المتوسطة، وكذلك على المستوى القروي يشهد المغرب مشاكل بيئية مستعصية الحل، وعلى سبيل المثال لا الحصر يعرف وادي "سبو" الواقع بالداخل المغربي تلوثا شديدا بالقرب من مدينة فاس، حيث تفرغ فيه أنواع متعددة من الملوثات مما يزيد من حدة فقدان جودته ويهدد صلاحيته لأغراضه الأصلية، حيث أن هذا الوادي هو مصدر السقي بالنسبة لسهول شاسعة بكل من سايس والغرب، وبالتالي حدوث دورة تلوث ترجع للمصدر وللمنتج وهو بلا شك "الإنسان"، ويمكن أن نورد أمثلة متعددة عن أنماط التنمية غير البيئية بالمغرب، وليست تنمية الصناعة التقليدية إلا مثالا قاطعا عن هذه التنمية المشوهة، إذ أكدت بعض التقارير البيئية أن قطاع الصناعة التقليدية هو أكثر القطاعات تلويثا لمدينة فاس، ناهيك عن استنزاف بعض الموارد الطبيعية كالغطاء النباتي، خصوصا بالمغرب العميق الذي يعرف تدهورا بيئيا حادا في وقت لا تفي تدخلات الدولة إن وجدت بالحد من ظاهرة التدهور البيئي، ويكمن أن نفسر هذا الواقع بغياب رؤية واضحة وتخطيط استراتيجي بعيد المدى مع التعامل بمنطق الأفضلية المجالية والانتقاء الترابي مما يجعل العدالة المجالية مفهوم بعيد عن الممارسة والتفعيل.
إن استحضارنا للحالة البيئية المغربية هو محاولة لتسليط الضوء عن راهن البيئة بالدول العربية، وانطلاقا من إلمامنا بواقع البيئة المغربية يمكننا الجزم أن مفهوم التنمية البيئية المستدامة لازال في مخاضاته الأولية من حيث التداول الدقيق التفعيل الحقيقي، لذلك فإننا نحتاج إلى بحث علمي جاد يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية على اختلاف تجلياتها.
وبالتالي نحن أمام نموذجين تنمويين، الأول يبحث في التجديد والتجويد وهو طبعا الخاص بالدول المتقدمة، أما الثاني فيكتفي بالتقليد والتأييد وبلا شك هو حال الدول المتخلفة.