1) أهداف التنمية الاقتصادية في الإسلام
تعتبر التنمية الاقتصادية في الإسلام ذات طابع خاص للجمع بين التنمية الاقتصادية وبين جوانبها الأخرى مما يؤدي إلى توفير سائر الاحتياجات التي تضمن المعيشة المتوازنة للأفراد على اختلاف طبقاتهم وحسب تغير الظروف المعاشة، ويتفق مع مفهوم الإسلام للرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وقد بين الدكتور عفر عبد المنعم بأن الرفاهية الاقتصادية في الإسلام هي وفرة الإنتاج وسهولة الحصول عليه مرتبطا بالأمن والطمأنينة للفرد والمجتمع في الداخل والخارج، وللتنمية الاقتصادية هدفين رئيسيين هما:
- الهدف الأول هدف اقتصادي مرحلي يتمثل في استخدام الموارد الطبيعية لتحقيق الرفاه الاقتصادي للجماعة والفرد، وهذا يتأتى بالسيطرة الكاملة على مختلف موارد الطبيعة واستغلالها أمثليا، وبهذا يمكن للفرد المسلم أن يتعدى هذه المرحلة المتمثلة في الرفاه العام لكي يصل إلى هدفه الذي سطره المولى عز وجل المتمثل في خلافة الأرض وعبادة الله.
- الهدف الثاني العدالة الاجتماعية: هدف إنساني وهو الهدف النهائي ويكمن في استخدام نتائج التقدم الاقتصادي لنشر العدالة الاجتماعية مشتملة عن القيم الإنسانية الرفيعة في جميع نواحي المعمورة، حيث يطلق الدكتور شوقي على دنيا هذا الهدف اسم (إنسانية الاقتصاد) مضيفا بأن معنى أن يستخدم الإنسان تقدمه الاقتصادي ينبغي أن يسخر لخدمة الحق والعدل وليس العكس.
ومما تجدر الإشارة إليه أن تحقق كل من الهدف الأول (الهدف المرحلي) يتطلب أن يكون هنالك ارتفاع لدخل كل فرد من أفراد المجتمع قد ارتفع في صورته الحقيقية المتمثل في تعزيز قدرة الفرد الشرائية الفعلية التي تترجمها السلع والخدمات الممكن الحصول عليها نتيجة إنفاق دخله، فإذا استطاع الأفراد أن يتعدوا حد الكفاية فمعنى هذا أن التنمية حقيقية وان طريقها موصل إلى رفاه اقتصادي الذي بدوره يحقق الهدف النهائي المتمثل في سيادة الخير والعدل لكفاية الإنسانية وحد كفاية في الإسلام يختلف عما يسمى بجد الكفاف في الاقتصاد الوضعي، فقد عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (أنه توفير القوام من العيش) أي ما به يستقيم حياة الفرد ويصلح أمره، أي المستوى الكريم في المعيشة من مسكن وملبس ومطعم ومشرب وغيره حسب الظروف التي يعيش فيها الفرد.
أما ما جاء في تعبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغي حد الكفاية بقوله: (إذا أعطيتم فاغنوا)أ ي يعطي الفقير ما يستأصل شأن فقره.
واعتبر المارودي حد الكفاية هو أدنى مراتب الغنى حيث قال: (فيدفع إلى الفقير المسكين من الزكاة بقدر ما يخرج به من اسم الفقير والمسكين إلى أدنى مراتب الغنى)(4).
2) خصائص التنمية الاقتصادية في الإسلام
إن أهم الخصائص التي تتميز بها التنمية الاقتصادية في الإسلام هي : الشمولية ،الواقعية والمسؤولية.
أ- الشمولية: مما سبق ذكره في شأن صبغة التنمية الاقتصادية الإسلامية التي ذكرنا بأنها شاملة ومتوازنة وغايتها الإنسان نفسه يتبين أن المنهج الإسلامي التنموي نابع من منهج رباني خالي من النواقص والأهواء البشرية والمحدودية الزمنية. مما يجعل من قواعد التنمية دعائم دائمة وصالحة لتقوم بأهداف وأغراض التنمية الحقيقية .
إن المنهج الإسلامي للتنمية يختلف عن المناهج المعاصرة لكونه يهتم بالإضافة إلى الجانب المادي إلى تطوير الجوانب الأخرى الروحية والأخلاقية.
ويتجلى الطابع الشمولي للتنمية كونها تتضمن كافة الاحتياجات البشرية بمعنى توفير ضروريات الحياة من ملبس ومسكن ونقل وتعليم ورعاية صحية ومواصلات وحرية التعبير وحق العمل، وغيرها من الحاجات التي تساعد الإنسان على تطوير طاقاته والمساهمة في المجهود الاجتماعي.
فالإسلام لا يعرف الفصل بين الجانب المادي والجانب الروحي ولا يفرق بين ما هو دنيوي وأخروي فكل نشاط يمارسه الإنسان طالما كان مشروعا وبه يتجه إلى المولى عز وجل يعتبر عملا صالحا لأن المولى عز وجل يقول " وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون " الآيةرقم 56 سورة الذرايات.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الشمولية تعني كذلك غرس الأخلاق والقيم الإنسانية في سائر أفراد المجتمع متآلف متعاون في جميع الحالات وفي شتى الظروف لتنمية المجتمع ورقيه.
وينبع العمل الصالح من الجوانب الأخلاقية التي ينميها الإسلام في الإنسان المسلم عندما تتغلغل العقيدة في أعمق أعماق النفس الإنسانية مؤتمرة بأوامر ونواهي الله سبحانه وتعالى، ومسنده إلى الرحمة والأخلاق الكريمة والمساواة ومؤدية بالإنسان إلى القوة والصلابة ليعمل ويكد ويطبق التكامل الاجتماعي الأمر الذي يؤدي إلى تنمية شاملة لكل جوانب الحياة وما يترتب عليه من تقدم اقتصادي واجتماعي.
ب- الواقعية : تتميز التنمية الاقتصادية الإسلامية بأنها واقعية تتماشى مع ظروف المجتمع الحقيقية أي أنها تضع المعالجة للمشاكل الاقتصادية بحيث يمكن تطبيقها تطبيقا حقيقيا في الواقع الاقتصادي المعاش.
وتعتبر الواقعية في الإسلام مثالية لأنها موضوعة من عند خالق البشر والعالم بأحوالهم مسبقا هو بذلك لا يمكن أن يشرع مناهج للحياة الاقتصادية تكون بعيدة عن إمكانية تطبيق العبادة لها.
وتظهر واقعية التنمية الاقتصادية في كون أن الإسلام وضع المعالي الملائمة لكل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المحتملة الوقوع في المجتمع البشري لكن حكمته تعالى أنه أوجد الغني والفقير لم يترك هذا التفاوت بدون تشريع يكفل له حسن التنظيم لإيجاد التوازن بين المستويين، ولذلك نجد الإسلام قد فرض الزكاة وجعلها حقا للفقير من مال الغني مصداقا لقوله تعالي: " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " الآية 19 سورة الذاريات وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أن الله فرض على الأغنياء بقدر ما يسع فقرائهم) والزكاة ليست صدقة يمن بها الغني على الفقير ولكنه حق ثابت يتولى ولي الأمر ( الدولة ) على إجبار الأغنياء على دفع هذا الحق عند الامتناع، ولقد قام الخليفة أبو بكر الصديق بإجبار مانعي الزكاة على دفعها.
وتبدو الواقعية في التنمية الاقتصادية في الإسلام في دعوته إلى التوسط بين الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري فيقول عز وجل " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " الآية رقم 67 سورة الفرقان.
وهذا المتوسط في الإنفاق الاستهلاكي على النفس وعلى منافع المجتمع مع تحريم كل من الإسراف وتبديد المال والربا والاكتناز، وفرض الزكاة على المال المدخر الذي لا يجد طريقه إلى الاستثمار وتسيير سبل الانتفاع بثروات المجتمع والحوافز المرتبطة بذلك يؤدي واقعيا إلى اتجاه المال إلى سبل الاستثمار المختلفة وزيادة الإنفاق الإسلامي لتحقيق أهداف التنمية.
ج- المسؤولية: يقول صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). ويبين هذا الحديث الشريف أن مبدأ المسؤولية في الإسلام واضح جدا فالكل مسؤول في إطار الدائرة والشريحة التي ينتمي إليها، وكل الأفراد مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى في كل عمل يقوم به، لذلك نجد أن مسؤولية الفرد تتعدى من الإطار الشخصي إلى الإطار الجماعي، كما أن مسؤولية الجماعة تتعدى إلى الإطار الفردي وهذا يعززه الإسلام بقانون التكامل الاجتماعي فالإسلام يعترف بكل من الحرية الفردية والحرية الجماعية ويجعل لكل منها حدودا مسؤولة بتحقيق رقي وازدهار المجتمع بأكمله وهذا التوافق بين مصلحة كل من الفرد والمجتمع وتحديد حالات تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بما يكفل التوافق بين المصلحتين ويمنع إلحاق الضرر بالفرد بالمجتمع.
وتتضح مسؤولية الفرد في مزاولته لنشاطه بصورة مختلفة في أن يمتنع عن كل ما من شأنه إهدار المواد وسوء استخدامها والإضرار بنفسه أو بالمجتمع فقد نهى الإسلام اتباعه عن كل ما يضر بالفرد أو بالمجتمع وإهدار المواد وتصريف الأموال في غير أوجهها والعمل أو إنتاج سلع وخدمات تكون ضارة بالمجتمع.
وتتضح مسؤولية الدولة في كونها تلعب دورا في النشاط الاقتصادي يتمثل في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كتحريم الربا، وتحريم الاحتكار ومراقبة مدى التزام النشاط الاقتصادي بالتعاليم الإسلامية وتوفير حد الكفاية لسائر أفراد المجتمع ومسؤولية الدولة تتعدى الأحكام إلى ما يحده الصالح العام، فحيثما وجدت المصلحة التي تقتضي تدخلها تدخلت وبذلك فمسؤولياتها تمتد إلى ملئ الفراغ من التشريع، فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر المشتركة وفقا لظروف كل مرحلة من المراحل التنموية.
ومن بين الأدلة التي توضح مسؤولية الدولة عن تنمية الاقتصاد، كتاب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أحد ولاته قائلا: ( أنظر ما قبلكم من أرض الصافية فأعطوها بالمزارعة بالنصف، وما لم تزرع فأعطوها بالثلث فإن لم تزرع فأعطوها حتى تبلغ العشر، فإن لم يزرعها أحد فامنحها، فإن لم تزرع فانفق عليها من بيت المسلمين ) ومن هذا يمكن الاستنتاج بأن المسؤولية في الإسلام مشتركة بين كل من الفرد والمجتمع.
د- التوازن :أن من بين أهم خصائص التنمية الاقتصادية في الإسلام هو التوازن في استغلال كل مستلزمات التنمية الاقتصادية المتوفرة في المجتمع من موارد بشرية ومادية، فالمنهج الاقتصادي الإسلامي في التنمية يجمع بين النمو الاقتصادي من ناحية وبين عدالة توزيع الثروة من ناحية أخرى وفي هذا يقول المولى عز وجل " اعدلوا هو أقرب للتقوى "الآية رقم 09 سورة المائدة. وهذا يبين أن هدف الإسلام في التنمية الاقتصادية هو أن يتوافر لكل فرد في المجتمع أي كانت جنسيته أو ديانته حد الكفاية لا الكفاف، أي الوصول إلى مستوى لائق للمعيشة حسب زمانه ومكانه.
كما أن من خصائص التوازن في المجتمع الإسلامي عدم الترجيح، فهو لا يرجح الصناعة على الزراعة ولا التنمية الريفية على التنمية الحضرية، أو الإنتاج الاستهلاكي على الإنتاج الاستثماري، أو التكنولوجية كثيفة رأس المال على العمالة أو تحقيق أهداف الأجيال المعاصرة على حساب الأجيال القادمة أو دور الحكومة على دور القطاع الخاص، بل أنه يعتمد على الوسطية في اتخاذ جميع القرارات وعلى ضوء متطلبات المجتمع الإسلامي وفي إطار مصادره الشرعية لكي يحقق التوازن في عملية التنمية المنشودة. ويتضح مما سبق بان المنهج التنموي الإسلامي يحث على زيادة الإنتاج وتكثيره بشتى الوسائل والطرق السلمية كما يذكر في نفس الوقت على عدالة التوزيع، بحيث لا يستغني أحد الطرفين عن الأخر، وهذا لأن وفرة الإنتاج مع سوء التوزيع يعتبر احتكارا ينفيه الإسلام، كما أن عدالة التوزيع دون وفرة في الإنتاج يعني توزيع الفقر والبؤس وهذا مرفوض هو الأخر في الإسلام.
وتختلف نظرة الإسلام للتنمية مع نظرة الرأسمالية التي تستهدف تنمية ثروة المجتمع دون النظرة إلى توزيع هذه الثروة.
كما أنه إذا كانت التنمية الاشتراكية تؤكد على العلاقة بين أشكال الإنتاج والتوزيع إلا أنها ترى أن نظام التوزيع يتبع دائما الإنتاج في حين يرفض الإسلام هذه التنمية فأين ما كانت أشكال الإنتاج السائدة فإنه يضمن أولا حد الكفاية لكل فرد حسب حاجته وذلك كحق شرعه الله يعلو فوق كل الحقوق، ثم بعد ذلك يكون لكل فرد نصيبه تبعا لعمله وجهده وعندما لا يمكن توفير حد الكفاية لكل فرد من المجتمع وهو ما يحدث في الظروف الاستثنائية كالمجاعات والحروب والكوارث الطبيعية التزم سائر أفراد المجتمع بحد الكفايةوهكذا يكون بداية بولي الأمر، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب في سنين القحط ( والله لن آكل حتى يشبع أطفال المسلمين).
إن الإطار التوازن للتنمية الاقتصادية في الإسلام هو الإطار الدقيق والمتوازن الذي رسمه المولى عز وجل، لكي يعمر الأرض التي جعله خليفة عليها وذلك تبعا للقوانين الربانية التي سطرها سبحانه وتعالى بمثابة الطريق المستقيم الذي يضمن استقرار ورقي وتقدم الإنسان في الدنيا، وثوابا وجزاء في الآخرة.
وفي هذا يقوم المولى عز وجل: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الآية رقم 153 سورة الأنعام.