2014-04-09

التنمية المستدامة وأمن الإنسان في البلدان العربية

تنطوي الحياة العالمية المعاصرة على أكثر من دلالة حقوقية وسياسية واجتماعية تشكل، في وجه من وجوهها، فلسفة قوامها أمن الإنسان الذي يتعين تحريره من الظلم والاستبداد والخوف، وهدفها ضمان الحرية والمساواة والتضامن والتنمية المستدامة، وأداتها إرساء دولة الحق والقانون. وقد برز مفهوم أمن الإنسان في السنوات الأخيرة باعتباره جوهر مفهوم الأمن الوطني الذي يهتم بأمن الدول.
التنمية المستدامة
مر مفهوم التنمية بأربع مراحل: في أولاها، جرى التركيز على النمو الاقتصادي. وفي ثانيتها، على التنمية البشرية. وفي ثالثتها، على التنمية البشرية المستدامة. وفي رابعتها، على التنمية الإنسانية بمعناها الشامل. ولعل مقولة التنمية أمست اليوم محوراً مشتركاً لمعظم العلوم الإنسانية وتطبيقاتها، وقد عرّف إعـلان ” الحق في التنمية ” الذي أقرته الأمم المتحدة في العام 1986 عملية التنمية بأنهـا ” عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية “. وحتى لا تظلم الأجيال القادمة، بسبب استنزاف الأجيال الحاضرة لجميع الموارد، ظهر ما يعرف بـ ” التنمية المستدامة “  والتي جاء تعريفها في مؤتمر الأمم المتحدة عام 1987 بأنها ” التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة “.
إنّ التنمية المستدامة تهدف إلى التوافق والتكامل بين البيئة والتنمية من خلال ثلاثة أنظمة هي‏:‏ نظام حيوي للموارد‏،‏ و نظام اقتصادي‏،‏ و نظام اجتماعي‏.‏ ويعني النظام الأول القدرة على التكيّف مع المتغيّرات الإنتاجية البيولوجية للموارد لعملية التخليق والإنتاج، لتكوين الموارد الاقتصادية بطريقة منظمة وليس جائرة الاستخدام‏.‏ أما النظام الاجتماعي فيعني توفير العدالة الاجتماعية لجميع فئات المجتمع.‏ وأخيراً النظام الاقتصادي، وهو يعني القدرة على تحقيق معادلة التوازن بين الاستهلاك والإنتاج لتحقيق التنمية المنشودة التي تهدف إلى‏:‏ التحسن المستمر في نوعية الحياة‏، ‏والقضاء على الفقر المدقع داخل المجتمع‏،‏ والمشاركة العادلة في تحقيق مكاسب للجميع‏،‏ و تحسين إنتاجية الفقراء‏،‏ وتبنّي أنماط إنتاجية واستهلاكية مستحدثة‏،‏ والانضباط في الأساليب والسلوكيات الحياتية للمجتمع‏.‏
أهم التحديات التي تواجه التنمية العربية
بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 وتداعياتها دخلت المنطقة العربية مرحلة جديدة، توضحت فيها مشاكل أساسية تعترض عملية التنمية المستدامة: أزمة المياه والغذاء والبطالة، وعدم تنفيذ المشاريع التنموية، والأزمات السياسية المستمرة، وارتفاع النمو الديمغرافي، وتدنّي مستوى الخدمات، وتزايد المديونية الخارجية، وانهيار أسعار بعض المواد الأولية.
واليوم يوجد، في كل بلد عربي، ثقوب سوداء تبتلع جهود الشعب وعافيته، وتقوّض وظائف الدولة، على ما بين الشعب والدولة من تباين في الدور والموقع، ومن أهمها ثلاثة:  أولها، الفساد الذي لا يلتهم فقط عوائد التنمية، ولا ينتزع اللقمة من أفواه معظم المواطنين، بل يقوّض كذلك ما قد يبذل من جهود للخروج من التأخر، ويُغرق العرب في تأخر يتفاقم دون هوادة، فيجدون أنفسهم في وضع من يركض إلى الخلف ووجهه إلى الأمام. وثانيها، السلطة الفردية، التي لم تترك وسيلةً إلا ولجأت إليها كي تضعف المجتمع  وتصادر حقوق المواطن، بدل أن تقوّي نفسها بتقويته، وتوسّع مكانتها عبر صيانة وتوسيع حقوقه. وثالثها، العدالة والمساواة، مع أنّ تبنّيها غدا حتمياً، وإلا استحال إنقاذ دولنا ونظمنا، التي لطالما تجاهلت العدالة والمساواة وأقامت أوضاعاً مناقضةً لهما، شبه مستحيل.
الأمن الإنساني
ظهر مفهوم الأمن الإنساني كجزء من مصطلحات الأنموذج الكلي للتنمية الذي تبلور في إطار الأمم المتحدة، وقد برز المفهوم من خلال تقرير التنمية البشرية لعام 1994، إذ كانت نقطة البداية لإطلاق المفهوم، ومن ثم ورد بقوة في تقرير التنمية الإنسانية لهذا العام 2009، لما له من علاقة وثيقة في تحقيق التنمية المستدامة وتحقيق الأمن الحياتي للناس.
لقد أصبح مفهوم الأمن الإنساني الشغل الشاغل للدول الحديثة، حيث يركّز على الظروف الداخلية التي يجب توافرها لضمان الأمن الشخصي للأفراد. ولم تعد هنالك إشكالية بين مفهوم حقوق الإنسان ومفهوم الأمن الإنساني، الذي يتجاوز التركيز على وضع مجموعة من القواعد القانونية الكفيلة بالتعامل مع مصادر تهديد الأمن الإنساني إلى التركيز على سبل تنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في الشرعة العالمية لحقوق الإنسان.
كما أنّ الحديث عن الأمن الإنساني يقتضي التعرّف على أهم تحديات الأمن الجماعي، وإبراز الترابط بين التهديدات المعاصرة التي يتعرض لها نظام الأمن الجماعي مثل الإرهاب والحروب الأهلية وبين الفقر والتنمية‏.‏ وفي هذا السياق تبنّت الأمم المتحدة إعلان الألفية الثالثة بشأن التنمية في سبتمبر/أيلول 2000، وتضمن ثمانية أهداف أساسية تصبو إليها البشرية، من أجل عيش أفضل، تحققها الدول خلال الفترة الممتدة بين 1990 – 2015، وتتمثل في: القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتحقيق تعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، وخفض معدلات وفيات الأطفال دون الخامسة، وتحسين صحة الأمهات، ومكافحة مرض نقص المناعة ” الإيدز ” والملاريا وغيرهما من الأمراض، وضمان الاستدامة البيئية وتطوير شراكة دولية من أجل التنمية.
إنّ البعد الشامل والتكاملي والمستديم في التنمية يحيل إلى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للأمن الإنساني وشروطه:
-    تنمية وعي المواطن، كإنسان مسؤول، للمشاركة في الشأن العام.
-    اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير أساسية في درجات التنمية المستدامة.
إنّ مفهوم الأمن الإنساني شامل جامع لمناحي حياة المواطن المختلفة: فالأمن الوطني هو حالة الثقة والطمأنينة نحو حماية الكيان الذاتي للدولة والعمل في بيئة مستقرة وآمنة من أي عمل عدواني، حيث القوة الوطنية لا تعني في هذا السياق القوة العسكرية فقط، بل هي محصلة لقدرات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. أما الأمن الذي يتعلق بصحة المواطن وغذائه ودوائه وبيئته واقتصاده، ويهتم بحركة تمكين المرأة في المجالات المختلفة، فقد أصبح غاية بحد ذاتها من أجل استقرار المواطن نفسياً وجسمياً وأخلاقياً وقانونياً لتحسين أدائه العام، وبناء مجتمع سليم يرتقي بالذوق العام.
ويختلف مفهوم الأمن الإنساني عن مفهوم التنمية كونه أشمل منها، بما يتجاوز المنظور التنموي الذي يركز على قضايا الحاجة أكثر من قضايا الخوف. أما باراديغم الأمن الإنساني فهو صياغة ذكية لمفهوم الأمن بإعادته لموضوعه أي أمن الإنسان، وهو يشكل تحدياً لاحتكار الأقلية للأمن في المعنى وفي الممارسة، مما يجعله ذا صبغة سياسية واضحة، ومن هذا المنظور فإنه يرتبط بشكل ومحتوى السلطة السياسية، بما يعطيه شرعية الربط بالمسألة الديمقراطية دون إغفال كل القضايا الأخرى المتعلقة بحاجات الإنسان المتنوعة.
وعندما يُعتمد مفهوم الأمن الإنساني، لقراءة المنطقة العربية، فإنه ينفتح على مقاربة رابطة لقضاياها المتنوعة: من موضوع الاحتلال والحروب والنزاعات، إلى الماء والبيئة والطاقة والتنمية والانتقال الديمقراطي.
أمن الإنسان في البلدان العربية
تلعب تقارير المنظمات الدولية، التي يتم إصدارها بشكل دوري، دوراً هاماً في مراقبة عمل الحكومات وأدائها في المجالات التي تدخل ضمن اختصاص تلك المنظمات. فقد أصبحت تلك التقارير، بما تكشفه من تقدم أو تراجع في سلم التنمية البشرية، بالاعتماد على مؤشرات اجتماعية واقتصادية، تثير مسؤولية الحكومات في المجالات ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعموم المواطنين.
وفي الواقع، خلال العقود الثلاثة الماضية حققت الدول العربية إنجازات هامة في مجالات الإنماء والاقتصاد والتطور الاجتماعي، لكنّ المجتمعات العربية ما زالت تواجه مشكلات عميقة تهدد حاضر العرب ومستقبل أجيالهم القادمة. فمعدلات الأمية والفقر وتدنّي مستويات التعليم والبحث العلمي والتطور التقني في تزايد مقلق جداً، وعلى امتداد العالم العربي. كما أنّ هياكل الإدارات، خاصة الرسمية منها، شبه مترهلة تحتاج إلى إصلاحات عميقة وسريعة لتطوير مستوى الخدمات، التي تطال جميع المواطنين في مختلف جوانب حياتهم اليومية. يضاف إلى ذلك أنّ قضايا الحريات الشخصية والعامة، والخدمات الاجتماعية، وتوزيع الثروة، والعدالة في توزيع الضرائب وحسن جبايتها، والإنماء المتوازن، والمشاركة الديموقراطية، والتخفيف من حدة الانقسامات الطبقية والعرقية والقبلية والطائفية والجهوية وغيرها، تثير قلقاً شديداً في العالم العربي.
ولعل أبرز ما يستوقف في التقرير الأول للتنمية الإنسانية في العالم العربي لعام 2002، إشارته إلى أنّ الفرد العربي سجل في السنوات العشرين الماضية أدنى نسبة نمو في مستوى الدخل في العالم لا يدانيه سوى سكان الصحراء الأفريقية، وأنه يحتاج إلى 140 سنة لمضاعفة دخله. كما ذكر أنّ التحديات التي تواجهها التنمية الإنسانية العربية على ثلاثة مستويات هي: الحريات، والمساواة بين الجنسين، واكتساب المعرفة. ويمكن إضافة تهديد الإرهاب وتصاعد الانقسامات الدينية والعرقية في المنطقة‏،‏ وازدياد التطرف وانتشار النزعات الأصولية السلبية‏،‏ واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى الدول،‏ وداخل كل دولة على حدة‏.‏ وأهم من ذلك كله عدم جاهزية المنطقة العربية للتحديات الاقتصادية المترتبة على العولمة‏،‏ وعدم تناغمها مع التطور التكنولوجي في العالم‏.‏
وبعد سبع سنوات صدر التقرير الخامس برعاية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 21 يوليو/ تموز 2009 ومساهمة نحو 100 خبير وأكاديمي (عرب وأجانب) متخصصين في شؤون العالم العربي، تحت عنوان ” تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية “، حيث عرّف أمن الإنسان بأنه “  تحرر الإنسان من التهديدات الشديدة، والمنتشرة والممتدة زمنياً والواسعة النطاق التي تتعرض لها حياته وحريتـه “.
وتضمن سبعة تحديات يواجهها أمن الإنسان في البلدان العربية، وقد جاءت مرتبة بحسب قيمتها الاستراتيجية. والحقيقة، سيجد قراء التقرير أنّ مضامينه مألوفة، وقد تمت مقاربتها في التقارير الأربعة السابقة: أولها، صدر في سنة 2002 تحت عنوان ” خلق الفرص للأجيال القادمة “، وقد تضمن ثلاث عقبات رئيسية تواجه العالم العربي تتمثل في: احترام الحريات الإنسانية، وتمكين المرأة، واكتساب المعرفة. وثانيها، صدر في سنة 2003 تحت عنوان ” إقامة مجتمع المعرفة “، وجاء فيه: أنّ المعرفة تساعد بلدان المنطقة كمحرك قوي للنمو الاقتصادي وتسريع الإنتاجية، وتوسيع وتعزيز قيم الحرية والعدالة من خلال إرساء الحكم الرشيد. وثالثها، صدر سنة 2004 تحت عنوان ” دعوة للحرية والحكم الصالح في العالم العربي”، وتضمن رصداً معمّقاً لنقص الحريات والحكم الصالح، ودعا للإصلاح في المجالين السياسي والقانوني. ورابعها، صدر سنة 2005 تحت عنوان ” نحو نهوض المرأة في الوطن العربي “، حيث ركز على ضرورة رفع القيود المفروضة المكبلة لطاقات وحريات المرأة العربية، باعتباره عامل أساسي ولازم للتنمية في البلدان العربية كافة.
غير أنّ الجديد في تقرير العام 2009 يكمن في توظيفه مفهوم ” أمن الإنسان “، وسعيه إلى تحليل التحديات التي تواجه العرب دولاً ومجتمعات. إذ أنّ ” أمن الإنسان ” في البلدان العربية محكوم بسبعة تحديات متكاملة من حيث الوظائف والأبعاد:
1 – البيئة والضغوط على الموارد، إذ من النادر أن يصدر تقرير دولي يتناول قضايا مصيرية تتعلق بأمن البشر ويعتبر البيئة أبرز العناصر المؤدية إلى انعدام الأمن، حيث اعتبر التقرير أنّ الضغوط البيئية المتعاظمة التي تواجهها المنطقة العربية ستؤدي إلى نزاعات سببها التنافس على الموارد الطبيعية المتناقصة.
إنّ البلدان العربية، التي ضمت 317 مليون نسمة عام 2007 ستصل، حسب توقعات الأمم المتحدة، إلى 395 مليون سنة 2015، 60 % منهم لا تتجاوز أعمارهم 25 سنة، وهي أعلى نسبة للشباب في العالم ( متوسط معدل العمر فيها 22 سنة مقابل متوسط عالمي يبلغ 28 سنة ). كما سيتجاوز معدل التحضــر 60 % بحلول العام 2020، مما يعني توقع مزيد من التغيّرات في المنظومة القيمية والاجتماعية في عموم البلدان العربية. ومقابل هذا التطور التصاعدي في مكوّنات البيئة الحاضنة للديمغرافيا العربية، ثمة معطيات ضاغطة على أمن واستقرار البيئة، من قبيل ندرة المياه وشُحِّ مصادرها، حيث يقدر الحجم الإجمالي السنوي لموارد المياه السطحية المتوافرة في الدول العربية بنحو 277 مليار متر مكعب سنوياً لا ينبع منها في المنطقة العربية سوى نسبة 47 %، في حين يشترك في 53 % مع غيره من دول الجوار والمنابع، ناهيك عن مخاطر التصحر (يهدد نحو 2.87 مليون كيلومتر مربع أو نحو خمس المساحة الإجمالية للمنطقة العربية)، وتلوث المياه، وإجهاد مصادرها الجوفية. وبطبيعة الحال لن تكون البلدان العربية في منأى عن التغيّرات المناخية التي تعرض لها العالم في العقود الأخيرة، والتي بدأت تظهر نتائجها واضحة على الطبيعة والإنسان.
2 – ضعف الدولة وعسر تحولها إلى وعاء حاضن لأمن الإنسان وسلامته واستقراره، فمما لا يختلف حوله اثنان إخفاق الدولة العربية الحديثة في إدراك مقوّمات الحكم الرشيد، كما هو متعارف عليها دولياً، وفي جل المسوحات والاستطلاعات التي أجراها معدّو التقرير كان نصيب الدول العربية ضعيفاً من حيث مدى قبول المواطنين لها (الشرعية)، ودرجة التزامها بالعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، ومن حيث كيفية إدارتها لاحتكار حق استخدام القوة والإكراه، ومدى قدرة الرقابة المتبادلة بين المؤسسات على الحد من إساءة استخدام السلطة.
حيث أكد التقرير أنّ ” العلاقة بين الدولة وأمن الإنسان ليست علاقة سليمة،  ففيما يُتوقع من الدولة أن تضمن حقوق الإنسان نراها في عدة بلدان عربية تمثل مصدراً للتهديد ولتقويض المواثيق الدولية والأحكام الدستورية الوطنية “. كما تناول التقرير الإخفاقات الدستورية، فأشار إلى أنه رغم وجود دساتير في معظم البلدان العربية فإنه ” في عدة مجالات جوهرية، لا تلتزم الدساتير العربية بالمعايير الدولية المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها الدول المعنية، ويؤدي ذلك إلى الإخلال بمستويات أمن الإنسان “، وفنّد التقرير بعض هذه المعايير فأشار إلى أنّ ” ثمة دساتير عربية تتناول حرية الرأي والتعبير بصورة غامضة مع الجنوح إلى التقييد لا إلى التسامح .. وهناك دساتير عربية عديدة تحيل تعريف الحقوق إلى القوانين التي تصدرها سلطة الدولة، بل تجيز التعدّي على حريات الأفراد وحقوقهم وانتهاكها “.
ويتحدث التقرير عن استخدام القانون لتقييد الحريات، فيشير إلى أنّ ست دول عربية تمنع مواطنيها من ممارسة العمل السياسي، كما تقيّد إقامة وعمل الجمعيات المدنية وتفرض الرقابة عليها في معظم الدول العربية، كما تشهد بعض الدول العربية أحكاماً عرفيةً أو أحكام طوارئ منذ عقود، رغم أنّ هذه الأحكام عادة ما تكون لفترة محددة، وتستخدم بعض الدول القوانين لتهديد ” حرية التعبير وتزيد من الصلاحيات الممنوحة للشرطة لتفتيش الممتلكات والتصنت والاعتقال، وفي بعض الحالات تزيد من الإحالة على المحاكم العسكرية “. وعلى العموم أخفقت القوانين في تحقيق التوازن المطلوب بين أمن المجتمع من جهة والحريات الفردية من جهة ثانية، وكان من نتائج ذلك أنّ السلطة القضائية في أغلب البلدان العربية ” تعاني انتهاك استقلالها بصورة أو بأخرى جراء هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية “، وقد أدى ذلك إلى أنّ ” كثيراً من مواطني البلدان العربية يعيشون في حالة من انعدام الحرية، ويُحرمون من الإدلاء بأصواتهم، واختيار ممثليهم “. كما يتحدث التقرير عن دعوات الإصلاح، التي ارتفعت خلال السنوات الأخيرة في بعض البلدان العربية، فيشير إلى أنّ تلك الدعوات ” قوبلت بالترحيب .. غير أنّ هذه المبادرات على أهميتها، كانت تفتقر إلى الفاعلية ولم تغير من طبيعة العقد الاجتماعي في البلدان العربية، أو الأسس البنيوية للسلطة في المنطقـة “.
وأثار التقرير، ضمن تعريفاته لمفهوم ” أمن الإنسان “، نقطة معرفية على درجة بالغة الأهمية، تتعلق بطبيعة الدولة القادرة على تحقيق الأمن بالمواصفات المبينة أعلاه. إذ يشير إلى أنّ ” الفرد لا يضمن لنفسه الأمن إلا في ظل دولة قوية، تخضع للمحاسبة، وتحكم بشكل جيد “، ما يعني أن تقعيد حكم الدولة على أسس ومبادئ الحكم الرشيد شرط لا مندوحة عنه، وهو ما نراه معطىً إشكالياً في البلدان العربية.
ولم يفلت من جدلية العلاقة مع دور الدولة العربية ومسؤولياتها، كما شخّصتها بكفاءة أمة العليم السوسوة مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة، عندما كتبت في مقدمة الوثيقة ” إنّ أمن الإنسان وأمن الدولة وجهان لعملة واحدة، فضمان أمن الإنسان يؤدي ليس إلى المزيد من فرص التنمية البشرية فقط، وإنما يمكّن الدولة أيضا من الاستفادة المستديمة من البيئة، ومن استحقاق شرعيتها في نظر مواطنيها، ومن الاستفادة من التنوع وتقوية اقتصادياتها في وجه التقلبات العالميــة “.
3 – الأمن الشخصي للمواطنين في البلدان العربية، فإذا كانت المعوّقات البنيوية التي تحول دون قيام الدولة بوظائفها الدستورية والسياسية في توفير شروط ” أمن الإنسان ” في العالم العربي بالوجه الأكمل، فإن ثمة ” فئات خارج نطاق التيار المجتمعي الرئيسي لا تتمتع بالأمن الشخصي على الإطلاق “، وقد حصرها التقرير في ” النساء المُكرَهات اللواتي تُساء معاملتهن، وضحايا الاتجار بالبشر، والأطفال المجندين والمهجَّرين داخليا واللاجئين.. “، وبإطلالة سريعة على مضامين الفقرات ذات الصلة، تتجلى خطورة استمرار هذا التهديد على مستقبل تماسك المجتمعات العربية.
وكالعادة تبوأت المرأة العربية مكانة بارزة في التقرير الذي اعتبر البيت مكاناً لممارسة العنف غير المنظور على الزوجات والشقيقات والأمهات، منوهاً بصعوبة قياس مدى انتشار العنف ضد النساء في الدول العربية لأنه ” من الموضوعات المحظورة في  ثقافة تتمحور حول السيطرة الذكورية “، فجرائم الشرف والاغتصاب والنزاعات المسلحة على رأس قائمة أشكال العنف الممارَس ضد المرأة العربية.
ومما يثير الانتباه حجم مشكلة الاتجار بالبشر في العالم العربي، إذ أنّ هذه الظاهرة تتحرك وراء ستار السرية، تحت سمع الدول وبصرها: فقد تكون الدولة وجهة هذه الظاهرة، أو ممراً للعبور، أو قد تكون هي نفسها مصدر الأشخاص الذين يتم الاتجار بهم. وكما يقول التقرير: باتت البلدان العربية مقصداً رئيسياً للاتجار بالأشخاص الوافدين من مختلف بقاع الأرض (جنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، وشرق أوروبا، وآسيا الصغرى، ووسط آسيا وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء). وهذا يعني، بالنسبة إلى الرجال، العمل القسري في ظل ظروف غير إنسانية لا تُحترم فيها حقوق العمال. وبالنسبة إلى النساء، يعني خدمة منزلية، أو العمل في الملاهي الليلية والاستغلال الجنسي. وللأطفال يعني استخدامهم القسري كمتسولين، أو باعة جوّالين، أو حمّالين، أو تجنيدهم في الحروب الأهلية (السودان والصومال).
وبالنسبة إلى اللاجئين، يلفت التقرير إلى فرادة المنطقة العربية باعتبـــارها ” المنطقة التي تلتقي فيها قضية اللاجئين الأطول عهداً في العالم أي قضية الفلسطينيين بتلك الأحدث عهداً في دارفور “. ويقدر التقرير عدد اللاجئين في المنطقة بنحو نصف اللاجئين في العالم، وفقاً للأرقام التي سجلتها المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) و” عددهم في البلدان العربية نحو 7,5 مليون في عام 2008 من إجمالي عددهم في العالم البالغ 16 مليوناً “، ومعظم هؤلاء اللاجئين من الفلسطينيين يليهم العراقيون. ويلفت التقرير إلى أنّ عدد النازحين داخل بلدانهم يفوق عدد اللاجئين ” يبلغ نحو 9,8 مليون مهجّر غالبيتهم الكبرى موزعة في ست دول عربية هي السودان وسورية والصومال والعراق ولبنان واليمن “.
وأشار إلى أنّ عامل الاحتلال والتدخل العسكري ” يؤديان إلى تهجير الشعوب ويزرعان بذور التوتر ويعززان الجماعات المتطرفة التي تلجأ إلى العنف “، إضافة إلى أنهما يساعدان الأنظمة على ” أن تتخذ من حماية الأمن القومي ذريعة لتأخير مسيرة الديموقراطية “. كما أنّ المراقبة الميدانية، التي يشير إليها التقرير، رصدت علاقة وثيقة الصلة بين الاختلافات الإثنية والطائفية والدينية واللغوية في عدد من الدول العربية ونشوب الصراعات المسلحة فيها، ومنها الصومال والعراق والسودان ولبنان.
كما انتقد التقرير المنحى الأيديولوجي أو المذهبي الذي تنتهجه بعض الدساتير العربية، والذي يُفرغ النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة من كل مضمون، وشملت الانتقادات كذلك قوانين مكافحة الإرهاب التي منحت الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة ” قد تشكل تهديداً للحريات الأساسية “. ويصف التقرير العلاقة بين الدولة وأمن الإنسان بأنها ” ليست علاقة سليمة “، لأنه في الوقت الذي يتوقع من الدولة أن تضمن حقوق الإنسان، تكون هي نفسها مصدراً للتهديد، واعتبر التقرير ” أزمة دارفور ” دليلاً على تأثير أداء الدولة في أمن الإنسان.
ولعل من أبرز ما أشار إليه التقرير هو الهوية والتنوع والمواطنة، فهذه القضايا التي شهدت حراكاً واسعاً خلال السنوات الأخيرة شكلت مصدر قلق للإنسان العربي باعتباره يعيش محيطاً واسعاً من التنوع الإثني والديني والطائفي واللغوي، وقد ألمح التقرير إلى أنّ العرب قد مروا بمرحلة حاولوا خلالها حجب هذه التنوع، إلا أنّ التجربة أثبتت أنّ التنوع قد يكون مصدر قوة للأمم كما يمكن أن يصبح مصدر تهديد لأمنها، فقد أصبحت الحقوق المنقوصة لبعض المواطنين بسبب انتمائهم الديني أو العرقي أو الثقافي أو السياسي مصدر اختراق لأمن بعض الدول العربية، حيث ذهبت الأقليات تبحث عن أمنها خارج أوطانها، أو بحثاً عن الشبيه لها في هذا التنوع لتشكل معه تكتلاً داخل المجتمع أو تمتد بجذورها خارجه، ولا شك أنّ هذه الاختلافات لا يمكن التعامل معها إلا تحت مظلة المواطنة التي تتعامل مع مواطنيها على مبدأ المساواة وسيادة القانون، ولعل موضوع المواطنة من الموضوعات القلقة في حياة الإنسان العربي، فهو يعيش بين مطالبته بالالتزام بخصوصية هذه المواطنة والانفتاح على العالم في إطار العولمة الإنسانية.
4 – الأمن الاقتصادي للدول والمواطنين على حد سواء، فمن المفارقات التي أسس عليها التقرير تحليله خطورة هذا التهديد، اعتماداً على الصورة المضلِّلة التي تعطيها الثروة النفطية عن الأوضاع الاقتصادية للبلدان العربية المنتجة لهذه الثروة الطبيعية ومشتقاتها، وقد استند في توضيح هذه المفارقة على المؤشرات المعتَمدة في تقارير التنمية البشرية عموماً، من قبيل ” مستويات دخل الفرد وأنماط نموها، خيارات العمل والاستخدام، الفقر، الحماية الاجتماعية “.
كما أفاد التقرير بأنّ هناك 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر، في حين تصل نسبة من يعيشون في فقر مدقع إلى نحو 34.6 مليون عربي بحسب خط الفقر الدولي (2005). وفي ما يتعلق بالبطالة ” في العالم العربي بلغت 14,4 % مقارنة بـ 6,3 % على الصعيد العالمي “، وأنّ اتجاهات البطالة ومعدلات نمو السكان تشير إلى أنّ الدول العربية ” ستحتاج بحلول العام 2020 إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة “.
وبعد صدور التقرير عُقد المؤتمر العربي الأول بشأن تشغيل الشباب في الجزائر ما بين 14 و 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2009، حيث قال المدير العام لمنظمة العمل العربية أحمد محمد لقمان: إنّ العالم العربي بحاجة إلى أربعة ملايين وظيفة جديدة سنوياً، وأوضح أنّ نسبة البطالة في العالم العربي بلغت 14 % لعام 2009، مشيراً إلى حاجة دوله إلى 4 ملايين وظيفة جديدة سنوياً. وتحصي منظمة العمل العربية أكثر من 25 مليون عاطل عن العمل في العالم العربي.  ومن جانبه قال الأمين العام المساعد في الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب طعمة الجوابرة: إنّ البطالة في العالم العربي تنتشر أكثر بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و25 عاماً إذ تفوق 25 %، مشيراً إلى أنّ الدول العربية تحتاج بحلول عام 2020 إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة.
5 – الأمن الغذائي،  فإذا كانت بعض البلدان العربية قد ابتعدت عن خط الجوع بسبب إعادة توزيع ريع ثرواتها الطبيعية، وقد وصل بعضها حد التخمة مع ما نجم عن ذلك من مشاكل صحية (البدانة)، فإنّ أكثريتها تعاني مما أسماه التقريــــر ” القصور الغذائي ” المترتب عن عدم توافر ما يكفي من الأطعمة المتنوعة الضرورية للتوازن الغذائي والصحي.
وعلى رغم أنّ الدول العربية تتمتع بقدر أوفر – نسبياً – على خط الغذاء الدولي مقارنة بخط الفقر، فإنّ هناك من السكان من هم مصنفون تحت بند ” الجياع “، وهناك تباين ملموس بين البلدان العربية في مدى التقدم في مكافحة الجوع. والغريب أنّ الدول العربية تتمتع بدرجة من الاكتقاء الذاتي في مجال السلع الغذائية التي يقبل عليها الأغنياء، مثل اللحوم والأسماك والخضر، أكبر منها في المواد الغذائية التي يستهلكها الفقراء مثل الحبوب والشحوم والسكر. ويظل المستوى المتدني للاكتقاء الذاتي من الأغذية الأساسية واحداً من أخطر الفجوات التنموية في المنطقة العربية بحسب ما أكد التقرير.
6 – الأمن الصحي، حيث غدا متعذراً ضمان الصحة لكل المواطنين، و تفشَّت الأمراض والأوبئة القاتلة في العديد من البلدان العربية، ناهيك عن المخاطر الصحية المستجدة، إذ يورد التقرير أنّ أكثر من 31.600 بالغ وطفل قضوا في البلدان العربية بسبب ” الإيدز “.
ومن النقاط الإيجابية النادرة التي أشار إليها التقرير صحة المواطن العربي، إذ حققت البلدان العربية، على مدى العقود الأربعة الماضية، تقدماً مشهوداً في مجال ارتفاع متوسط الأعمار المتوقعة، وانخفاض معدل وفيات المواليد الجدد. ولكن تظل هناك ثغرات عديدة، إذ أنّ الصحة ليست مضمونة للجميع، فالنساء يعانين أكثر من غيرهن من الإهمال، وبعض التقاليد يمنع حصولهن على الرعاية الصحية المناسبة، بالإضافة إلى العجز البيروقراطي ونقص التمويل مع تعاظم الأخطار الصحية جراء انتشار أمراض معدية جديدة.
7 – الاحتلال والتدخل العسكري، حيث تعاني دول عربية كثيرة من هذا الواقع والمخاطر الناجمة عن استمراره. إذ عرض التقرير تقييماً للأضرار الناجمة عن الانتهاكات التي ترتكب ضد حقوق الإنسان، مع التركيز على آثار ” التدخل ” الأمريكي في العراق، واستمرار ” السيطرة ” الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك ” الحملة ” الأخيرة على غزة.
وجاء في التقرير ” من منظور التنمية الإنسانية لن يتحقق السلام الدائم إلا بإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي التي احتلتها في 1967 واستعادة الحقوق الفلسطينية وفي مقدمتها حق تقرير المصير. وقد ساهم غياب مثل هذا الحل حتى الآن في إحباط التنمية الإنسانية في المنطقة “. كما أشار إلى الارتفاع غير المسبوق في أعداد الوفيات في العراق بعد الغزو الأمريكي في 2003 والتدهور العام في الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية للعراقيين بعد الغزو.
حاجة العرب إلى التنمية المستدامة
تتضح حاجة البلدان العربية إلى التنمية المستدامة – أكثر فأكثر – بعدما علمنا، طبقا للتقرير الخامس لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالعناصر السبعة التي حددها التقرير كمؤشرات دالة على هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة العربية.
‏ إنّ نجاح الخطط التنموية العربية ومواجهة تحديات العولمة واقتناص فرصها،  يتطلبان توفير شروط كثيرة، تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكّن المواطنين العرب من المشاركة في صياغة مستقبل وطنهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات. مما يتطلب ضرورة الانطلاق من الأهداف والمنطلقات التالية:
ـ رفع مستوى الأداء الاقتصادي، أي رفع مستوى الإنتاجية وزيادة حجم الإنتاج القومي، ضمن نمط قطاعي متوازن قدر الإمكان.
ـ إتاحة المزيد من السلع والخدمات التي تلبي الحاجات الأساسية للشعوب العربية.
ـ  توفير فرص العمالة المنتجة ومحاولة خفض البطالة، المكشوفة والمقنّعة، وتعبئة المزيد من الموارد البشرية بما يؤدي إلى تأمين المزيد من القدرة الشرائية في يد العدد الأكبر من المواطنين العرب.
ـ إصلاح نمط توزيع الدخل داخل الأقطار العربية.
ـ تقليص الفجوة التنموية بين أقطار العالم العربي.
ـ تطوير قدرة البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، بحيث تستطيع أن توفر للاقتصاد الأفكار والمعارف والمواقف والمؤسسات الضرورية للتحرك الاقتصادي بكفاءة، بحيث يكون نموه وتحسن أدائه متواصلاً.
ـ تحقيق مشاركة شعبية واسعة، واتخاذ القرارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتصلة باستراتيجيات وسياسات التنمية.
وقد تبدو الصورة التي تبرز عن التقدم العربي نحو تحقيق أهداف الألفية بحلول عام 2015 غير مشجعة، ومع ذلك يمكن للدول العربية، إذا رغبت وصممت، أن تغيّر الوضع القائم وتقود المسيرة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بتبنّي إدارة حكم جيدة، وسياسات إصلاح عادلة لصالح الفقراء، وإدارة موارد نشطة وفاعلة، وتحديد أولويات واضحة ودقيقة للتنمية البشرية، وتبنّي أو تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي القادرة على خلق فرص عمل تمتص الداخلين إلى سوق العمل، وتستقطب نسباً متزايدة من صفوف العاطلين عن العمل، ومعالجة الفجوات بين المدن والأرياف.
إنّ المطلوب من الدول العربية لمواجهة هذه التحديات أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية العربية، بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانات والموارد المتوافرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقاً للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمن مستقبله ومستقبل أجياله.
فلا بد من إعادة الهندسة البشرية العربية بشكل يتوافق ومتطلبات العصر، ولإتمام ذلك لا بد من تجاوز أدوات وأساليب التنشئة الاجتماعية المعوّقة لحركة النمو، وهذه مهمة استراتيجية تتطلب رؤية شمولية وإطار تفكير مختلفاً يتعامل مع التعقيد والتشابك وينأى عن الثوابت واليقين، وإرادة سياسية صادقة وواضحة وقوية، وإعداد خرائط حاجات تدريبية سنوية بالمؤسسات العربية وخطط تدريب ديناميكية تلبّي خاصية تجديد الاحتياج التدريبي، وإعطاء مفهوم التدريب المستمر أولوية قصوى وخلق الحوافز لترسيخه وربط نشاط التدريب بالإدارة العليا مباشرة، والاهتمام بإنشاء حضانات التكنولوجيا وتضييق الهوة ما بين حاجات السوق ومخرجات التعليم وفقا للتطور العلمي والتكنولوجي، ومحاربة الفساد بكل أنواعه وتسخير الموارد العربية لتنمية شاملة فعالة.
‏ إنّ وضع حاجات المواطنين الأساسية في مقدمة أولويات التنمية وتوسيع المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار، وإخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمزيد من الدرس والتمحيص من خلال الحوار العام المفتوح، من شأنه أن يؤدي إلى إدارة عقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية. ومن ناحية أخرى، فإنّ ضمان سهولة الحصول على المعلومات، وتوفر الشفافية في الصفقات الاقتصادية، وإفساح المجال لتسليط الضوء على جوانب القصور وعدم الكفاءة في الأجهزة الحكومية والمؤسسات ذات الطابع الاقتصادي، والكشف عن التجاوزات والممارسات المنحرفة، تساعد على تحسين أداء الأجهزة والمؤسسات الحكومية وتُمكّن من محاربة الفساد.
وغني عن القول إنّ الرقابة الشعبية هي وحدها التي تستطيع القيام بمهمة الكشف عن جوانب القصور ومواطن الفساد والممارسات المنحرفة بفعالية، فأجهزة الرقابة الحكومية في كثير من البلدان العربية تفتقر إلى الحيادية والنزاهة، وتخضع في كثير من الحالات لضغوط المسؤولين عن التقصير والمنتفعين من الفساد، مما يجعلها غير قادرة على إظهار الحقائق وإدانة المقصّرين والمفسدين.
إنّ التنمية والحكم الصالح يمكنهما السير معا إذا توفرت إرادة سياسية، وتشريعات ضامنة ومؤسسات وقضاء مستقل، ومساءلة وشفافية، وتداول سلمي للسلطة، ومجتمع مدني ناشط، ورقابة شعبية وإعلام حر. ولهذا فإنّ التعاطي المجدي مع الإشكاليات والتحديات إنما يستهدف اختيار السبل الصحيحة والمناسبة لإحداث التنمية الإنسانية المنشودة والشاملة، في ظل حكم صالح/راشد ورقابة فعالة من قبل مؤسسات المجتمع المدني.
كما يجدر بنا أن نقلع عن تحميل مسؤولية عجزنا وتأخرنا على الآخر الغربي، فإذا نسبنا مسؤولية كل ما نتعرض له من إجحاف وظلم إلى الآخرين، فلن يكون من الممكن أن نحدد لأنفسنا مهام خاصة بنا، وسنظل أسرى منطق دائري يجعلنا نعكف على انتظار الخلاص بالصدفة. بينما المطلوب أن نتحرر من هذه النزعة، وأن نجري تغيّرات ثقافية جوهرية، تتضمن – قبل كل شيء – الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا، ومن ثم عن المعطيات الأساسية لمستقبلنا العربي في الإطار العالمي.
ولعل أبرز الدروس التي يجدر بنا استيعابها للتعاطي المجدي مع التحديات التي طرحها التقرير: التأكيد على أنّ التحديات الخارجية تفترض أصلاً إصلاح أنظمة الحكم ومحاربة الفساد، وإعلاء شأن المواطنين في دولة القانون. إذ تحتاج المجتمعات العربية إلى إصلاح الخدمات الحكومية الأساسية في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وحمايتها من التدمير والإفشال المتعمد، لأنّ ذلك يؤدي إلى توزيع غير عادل للفرص الأساسية، ويهمّش فئات واسعة من المجتمعات والأجيال، ويحرمها من القدرة على المشاركة والتأثير، أو يثقل كاهلها المثقل أساساً لتحمل أعباء كبيرة وهائلة لتأمين التعليم والعلاج من خلال القطاع الخاص، فلا يمكن الحديث عن حياة سياسية وبرامج إصلاح في بيئة لا يستطيع المواطنون فيها الحصول على تعليم وعلاج مناسب ولائق.
كما أنّ تحقيق التنمية المستدامة يتطلب إيجاد حالة من التوازن الاجتماعي بين الحريات الفردية من ناحية‏,‏ ودور الدولة من ناحية أخرى‏,‏ وبين القطاع العام والقطاع الخاص‏,‏ وبين مصالح رجال الأعمال ونقابات العمال‏,‏ وإزالة التناقض الزائف بين هذه الأمور‏.‏ ففي إطار الحرية الاقتصادية يبقى للحكومات دورها في تشجيع مناخ الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي‏,‏ وفي رسم سياسة الضرائب‏,‏ وسياسة الخدمات الاجتماعية‏,‏ وتحسين التعليم والبنية الأساسية‏,‏ بالشكل الذي يؤدي إلى توسيع فرص العمل وإتاحتها لأكبر عدد من الناس‏.‏
وانطلاقاً من أنّ الناس لا ينظرون إلى المستقبل على أنه ذلك المجهول الذي لا يمكن معرفة مكنوناته والتحكم في مجرياته، بل باتوا يخططون له ويعملون على التأثير في اتجاهاته الرئيسية. فإننا نرى أهمية صياغة تصورات أولية للتنمية العربية في المستقبل، منطلقين من أنه لم يعد ممكناً الكفاح ضد ” النظام العالمي ” من خارجه، فالعالم أضحى اليوم ” قرية صغيرة ” أطرافه مترابطة ومتبادلة المنافع. مما يجعلنا ندرك أنّ قوة العالم العربي وقدرته على التعامل المتكافئ مع العالم الخارجي إنما هما مرهونتان – أساساً – بقدرة أقطاره على التنسيق والتكامل فيما بينها، وعلى خلق سوق عربية واحدة، تحقق الكفاية والفاعلية الاقتصادية من ناحية، والقدرة على تقليص التبعية والتعامل المتكافئ مع الخارج من ناحية أخرى.
خاتمة
وتبقى الأسئلة مُشْرَعَةً: لماذا تتعثر مشاريع الإصلاح في البلدان العربية ؟ ولماذا تغيب استراتيجيات التنمية ؟ ولماذا يتفاقم الفساد ؟ ولماذا تنتهك الحريات السياسية والاجتماعية.. بل لماذا تستمر الاحتلالات الأجنبية في منطقتنا من دون رادع ؟ ولماذا تزداد الهوّة بين الأنظمة السياسية وشعوبها ؟
التقرير يرى أنّ الإجابة تكمن في هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة، وفي افتقارها إلى سياسات تنموية تتمحور حول الناس، وفي ضعفها حيال التدخل الخارجي، وقد تضافرت هذه العوامل جميعاً لتقويض أمن الإنسان، وهو الأساس المادي والمعنوي لحماية وضمان الحياة ومصادر الرزق، ومستوى من العيش الكريم، ذلك أنّ أمن الإنسان من مستلزمات التنمية الإنسانية، وقد أدى غيابه، وعلى نطاق واسع في البلدان العربية، إلى عرقلة مسيرة التقدم فيها.
وتبقى المسؤولية الأولى والأخيرة ملقاة على عاتق الدولة الوطنية العربية وسياساتها على مختلف الأصعدة، قبل أن تتحملها القوى الدولية والخارجية.
فهل تتوقف الحكومات العربية عن هدر الحقوق الإنسانية وإبطال مفعول القوانين المنصفة ؟
وهكذا، لم ينتهِ التقرير إلى فراغ، بعدما كشف عن ضراوة المشكلات الإنسانية وتفاقمها في العالم العربي، بل سجل ما سماه الأركان السبعة لأمن الإنسان العربي، التي تتحمل مسؤولية الالتزام بها الحكومات ومؤسسات الدولة أولاً، ثم مؤسسات المجتمع المدني، وجميع القوى الاجتماعية المنظمة، فلهذه الأركان أهمية مركزية في حياتنا من أجل إصلاح الوضع القائم بدءاً من:
• المحافظة على الأرض وصونها ورعايتها لمواجهة الضغوط البيئية والسكانية، وضمان الحقوق والحريات والفرص الأساسية للمواطنين دونما تمييز.
• وانتهاء بالإقرار السياسي بأنّ استمرار انتهاكات حقوق الإنسان والاعتداء على سيادة البلدان وحياة مواطنيها من جانب القوى المحلية والإقليمية والعالمية ستجد طريقها إلى الفشل لا محالة.
هكذا، تستوجب عملية إعادة بناء أمن الإنسان العربي ” المحافظة على الأرض وصونها ورعايتها، وكذلك على المياه، والهواء، والبيئة التي تقوم عليها حياة شعوب البلدان العربية “، كما تستلزم ” ضمان الحقوق والحريات، والفرص الأساسية دون تفرقة ولا تمييز “، إضافة إلى ” اعتراف الدولة والمجتمع بسوء المعاملة والإجحاف اللذين تعانيهما كل يوم الفئات الضعيفة “، مع ” التخطيط لتدارك الضعف في الدعائم البنيوية للاقتصاديات العربية التي تعتمد على النفط والتخفيف من فقر الدخل “، و” القضاء على الجوع وسوء التغذية “، ثم ” الارتقاء بمستويات الصحة للجميع، باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان، وواحداً من المستلزمات الأساسية لأمن الإنسان “. وتشترط عملية إعادة تأسيس أمن الإنسان في البلدان العربية تحريره من الاحتلال الجاثم على أراضيه، وصون مقوّمات أمنه الإقليمي من التدخلات الأجنبية.. إنها في الحقيقة عناصر عامة وشاملة تحتاج إلى أدوات عملية، أي سياسات عامة لجعلها قابلة للتنفيذ في الواقع.
وفي كل الأحوال يبدو أنّ التقرير سيفرض نفسه على الحلبة الثقافية العربية وسيثير الجدل الذي فحواه: إنّ الدولة الآمنة في الألفية الثالثة، ليست تلك التي تملك ترسانة من الأسلحة والمعدات العسكرية، والجيوش الضخمة عددياً، ولكن تلك التي كونت إنساناً مدنياً قادراً على حماية الدولة نفسها، والاستعداد للتضحية من أجل بقائها واستمرارها بيتاً للجميع.

Share this