تمثل البنية التحتية العمود الفقري وشريان الحياة لجميع أنشطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات المتحضرة. وبدونها لا يمكن تحقيق أي تطور أو رفاهية حضارية في المجتمع.. وهذه الحقيقة تؤكدها الدراسات والأبحاث القديمة والحديثة، كما تؤكدها الرؤية الواقعية الراشدة لما تؤدي إليه خدمات البنية التحتية من دعم وتكامل وربط لمقومات الاقتصاد. وقد أوضحت معظم الدراسات التأثير الإيجابي لتوفر خدمات البنية التحتية وخصوصاً الاتصالات والطرق. فليس من المصادفة أن تكون الصين وسنغافورة وماليزيا وتايلاند ،والتي استثمرت جزءاً كبيراً من ناتجها المحلي الإجمالي في تطوير خدمات البنية التحتية، في مصاف أفضل الدول أداءَ بين اقتصاديات العالم اليوم. ولما لخدمات البنية التحتية من أهمية في تحقيق التنمية المستدامة، فمن الملاحظ أن معظم دول العالم المتقدم تتنافس في الاستثمار في مجالاتها المختلفة، حيث تنفق الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أكثر من 150 مليار دولاراَ سنوياَ. كما تنفق عليها كندا 40 مليار دولار سنوياً, لبناء البنية التحتية وتحسينها وتطويرها وصيانتها وإعادة تأهيلها في ولاياتها المختلفة، وتعلق الدول المتقدمة على ذلك أهمية كبرى كوسيلة لتطوير الاقتصاد الوطني وزيادة كفاءة الإنتاج الصناعي، خصوصاً وأن ما استثمرته تلك الدول قبل 50 عاماً في بناء شبكات الطرق السريعة، قد عاد عليها بأرباح وعوائد مضاعفة، كما سيتضح فيما بعد. وتشير دراسات البنك الدولي ومعهد الأراضي العمرانية( Urban land Institute-ULI ) والعديد من مراكز الأبحاث في الدول المتقدمة، إلى أن العالم يتحضر بسرعة كبيرة وأن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية أصبحوا يعيشون في المدن والمناطق الحضرية، وأن هذه النسبة في ازدياد ليتحول أكثر من 85% من سكان الكرة الأرضية إلى العيش في المدن و المناطق الحضرية خلال العشرين عاماً القادمة، لذلك فإن التوجه الدولي يؤكد على ضرورة التحسب والتخطيط المسبق لذلك، وسيكون هناك دور محوري وحرج للدول في العالم بكامله لأخذ زمام المبادرة في توفير خدمات البنية التحتية وتطويرها وتكاملها وصيانتها وتشغيلها بكفاءة، وتأكيد أهميتها لتأمين تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة. وقد شوهد خلال القرن الماضي نقص كبير في مدى ما تنفقه الحكومات أو القطاع العام في تمويل وتشيد البنية التحتية في معظم دول العالم. مما اضطر تلك الحكومات إلى تشجيع القطاع الخاص للمشاركة في إنتاج وتطوير الخدمات لمعظم قطاعات الدولة وخصوصاً خدمات البنية التحتية. وبعد ظهور عصر الخصخصة والتاتشرية في بريطانيا ثم في بقية أوروبا واستراليا، أصبح التوجه للاستثمار في البنية التحتية أكثر إغراءَ للقطاع الخاص للاستثمار فيه كنوع جديد من الأنشطة المجدية اقتصادياً وخصوصاً على المدى الطويل. وقد تميز في ذلك قطاع البنوك ومؤسسات التقاعد والتأمينات الاجتماعية والتي هي الأقدر على توفير التمويل والاستثمار طويل المدى في هذا المجال، إضافة إلى ما تجنيه تلك المؤسسات من فوائد مادية إيجابية من هذا النوع من الاستثمار، وما تسهم به في تحضر المجتمع. وقد تطورت هذه الظاهرة مؤخراَ بظهور سوق ثانوي تبيع من خلاله تلك البنوك والمؤسسات المالية المختلفة، ما لديها من سيولة لجهات وصناديق استثمارية متنوعة. إلا أن هذه الظاهرة في حقيقتها لا تلغي دور الدولة، بل تسمح لها بالتحكم في السياسات العامة ووضع المعايير والإشراف والمتابعة، بينما يتم تحويل المخاطر الاقتصادية إلى القطاع الخاص وتكسبه نوعاً من الكفاءة والرشد المهني، بالإضافة إلى توفير فرص العمل وتطوير الموارد البشرية للدولة. كما تقوم الدولة عن طريق تبادل الأدوار مع القطاع الخاص، ضمن أطر ومحددات يحكمها ويربطها اتفاقيات ومذكرات تفاهم ووفق خطط شاملة حالية ومستقبلية، وضوابط تقنية وفنية متكاملة لتخطيط خدمات البنية التحتية وتطويرها وتنفيذها وتشغيلها وصيانتها على مستوى الدولة، وأحياناً على مستوى اتحادات الدول، مثل مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد الأوروبي وما يتضمنه ذلك من اتفاقات لربط شبكات الطرق والكهرباء والمياه والاتصالات وغيرها. وتختلف المعايير التقنية والعمرانية لمدى تغطية البنية التحتية للمناطق العمرانية من مجتمع لآخر، حيث تتبنى كل دولة معايير ومقاييس مختلفة تتناسب مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعاداتها وتقاليدها. فبينما تخطط الولايات المتحدة الأمريكية للبنية التحتية للمواصلات على أساس أن لديها 750 سيارة لكل ألف شخص، يلاحظ أن المملكة المتحدة تخطط على معدل 500سيارة لكل ألف شخص. وتبقى الصين على معدل 50 سيارة لكل ألف شخص. وحتى تقنياً، يلاحظ أن اليابان والتي هي أصغر مساحة وسكاناً من الولايات المتحدة الأمريكية، لديها شبكة من القطارات السريعة والتي تصل في مجموع أطوالها إلى 2000كم، بينما لا يصل طول تلك الشبكة في الدول الأخرى إلى 300كم، في حين تتعدى الولايات المتحدة اليابان في طول شبكة القطارات التقليدية العادية. وقد تزامن مع هذه التغيرات والتوجهات لمشاركة القطاع الخاص، بروز آليات مختلفة لتمويل خدمات البنية التحتية وتنفيذها. بدءاَ من القروض الدولية والمحلية وانتهاءً بإصدار بعض الدول لسندات بلدية وحكومية بفوائد منخفضة لتمويل إنشاء خدمات البنية التحتية. وقد تنبهت لأهمية تطوير خدمات البنية التحتية الوطنية الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول غرب أوروبا واليابان ولحقت بهم مؤخراَ كل من ماليزيا واستراليا والصين وكوريا الجنوبية، حيث نجحت تلك الدول باللحاق بركب التنمية الحديث باستمرار التخطيط والتطوير والتمويل لتشييد البنية التحتية وتشغيلها وصيانتها بكفاءة، الأمر الذي وضعها في مصاف الدول المتقدمة. وأبرز ما يدل على أهمية الاستمرار في تخطيط خدمات البنية التحتية وتطويرها وتمويلها وتنفيذها، ما توصل إليه البنك الدولي، فيما يخص ضرورة استمرار تنمية قطاعات الخدمات المختلفة وأثرها على حركة الاقتصاد الوطني . والتي يمكن تلخيصها فيما يلي :- •يساعد توفر تجهيزات البنية التحتية على زيادة الناتج المحلي الإجمالي بطريقة مباشرة من خلال زيادة فعالية وإنتاجية رأس المال، ويتم ذلك بزيادة جاذبية المنطقة التي تخدمها هذه التجهيزات التي تعمل في الوقت نفسه على تنشيط وإنعاش سوق البناء والتشييد. •يؤدي توسع شبكة خدمات البنية التحتية إلى نمو الاقتصاد الوطني وزيادة الفعالية المالية. •للبنية التحتية آثار طويلة الأجل على نوع الهيكل الاجتماعي الذي سيتم تطويره، وخصوصاً نمو المراكز الحضرية والمناطق الأخرى المرتبطة بها. •يمكن أن تؤدي الصيانة غير الكافية لتجهيزات البنية التحتية إلى زيادة تكاليف الإنتاج، كما يمكن أن تؤدي إلى انهيار الأنشطة الاقتصادية في حالة تفاقم نقص الصيانة. وقد تبنت هذه الدراسة أمثلة حية على المردود الإيجابي لتوفير خدمات بنية تحتية متكاملة بأمثلة مختلة محلية ودولية لتطوير خدمات البنية التحتية، مثل تجربة مدينتي الجبيل وينبع. وإلى ما تم التوصل إليه في الولايات المتحدة الأمريكية من تقييم لمردود تطوير خدمات البنية التحتية الإيجابي على الاقتصاد الوطني. وهي حقائق مبنية على معلومات متراكمة فيما يتعلق بتطوير البنية التحتية الأساسية. الأمر الذي يشير بوضوح إلى ما يلي :- •إن الاستثمارات الإستراتيجية طويلة المدى في تخطيط خدمات البنية التحتية وتطويرها وتمويلها وتشييدها وتشغيلها وصيانتها بكفاءة مستمرة، مطلب اقتصادي أساسي لنمو الاقتصاد الوطني. •إن التوسع في استخدام التقنية المتقدمة وتوفير قاعدة معلومات متطورة يعمل على زيادة الإسهام الإيجابي في تطوير خدمات البنية التحتية ورفع كفاءة أدائها، يؤدي بإيجابية إلى نمو الاقتصاد الوطني. ويدعو هذا التوجه والاهتمام بالبنية التحتية ودورها في مساندة التنمية المستدامة،إلى التساؤل عن مدى توفر هذا الاهتمام في المملكة العربية السعودية، وعن مدى تكامل البنية التحتية فيها وأثر ذلك على ما تواجهه المملكة من منافسة متزايدة من الدول الأخرى لجذب الاستثمارات الأجنبية واستقطابها، بكل ما يرتبط بذلك من تقنيات ومعرفة بالأسواق والتي تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلع إليها الدول في العالم الثالث. فبالرغم من توفر مخزون هائل من احتياطي النفط في المملكة والذي يمثل ربع المخزون العالمي، إلا أن المملكة تعاني من نقص في معظم الخدمات والموارد الأخرى اللازمة لتحقيق تنمية مستدامة. لذلك فإن تعزيز المقومات التي تملكها المملكة من خلال استمرار تطوير تجهيزات البنية التحتية وتخطيطها وتمويلها وتشييدها وتشغيلها وصيانتها بكفاءة ، سوف يسهم بقوة في وضع المملكة في مرتبة متقدمة في المنافسة واستقطاب الاستثمارات الأجنبية والتي تسهم إيجابياً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. تهدف هذه الدراسة إلى مراجعة الوضع الحالي وتحليله لما آلت إليه خدمات البنية التحتية في المملكة وما توصلت إليه الخطط الخمسية من تحقيق لمبدأ التنمية المستدامة مقارنة بالمستويات الدولية، بهدف التعرف على مشاكل سياسات التخطيط والتطبيق الحالي وما يتبع ذلك من نتائج واخفاقات وذلك لكي يتم تشخيص المشكلة ووضع الحلول والتوصيات المناسبة لها. وبناء عليه، فقد توصلت هذه الدراسة إلى توصيات لإستراتيجيات وآليات لتخطيط وتنفيذ وتمويل تجهيزات البنية التحتية، بهدف ضمان الوصول إلى تنمية مستدامة، ولتحقيق أهداف الدراسة في هذا الشأن فإن الدراسة احتوت على الفصول التالية :- - مقدمة لتحديد الأهداف والغايات من الدراسة . - دراسة الأدبيات الخاصة بتخطيط وتنفيذ وتطوير تجهيزات وخدمات البنية التحتية ومناهج البحث العلمي للدراسة. - تحليل الوضع الراهن للبنية التحتية في المملكة. - منهجية الدراسة. - تحليل نتائج الدراسة وتقييمها. - التوصيات