قبل نصف قرن من الزمان قال جون ف. كينيدي "إن الإنسان يحمل في يديه الفانيتين القوة الكفيلة بالقضاء على كل أشكال الفقر وكل أشكال الحياة البشرية"، والواقع أن هذه الكلمات تخاطبنا اليوم بقدر عظيم من الإلحاح.
إن جيلنا قادر حقاً على إنهاء النكبة القديمة المتمثلة بالفقر المدقع، لكنه قادر أيضاً على تدمير النظام الداعم للحياة على ظهر كوكب الأرض من خلال الدمار البيئي الناتج عن أنشطة بشرية.
وبحكم الضرورة إذن فقد دخلنا عصر التنمية المستدامة؛ لذا فأنا متحمس للغاية لإطلاق مقرر جامعي عالمي مجاني على شبكة الإنترنت يحمل نفس الاسم في يناير 2014. (وبوسع المهتمين الانضمام إلى هذه الدورة والتسجيل على موقع coursera.org). وإنني لأتمنى أن ينضم الناس من أنحاء العالم المختلفة إلى هذه الدورة، ثم ينضمون بالتالي إلى المسعى الذي دام جيلاً كاملاً لتحقيق التنمية المستدامة.
إن التنمية المستدامة تشكل وسيلة لفهم العالم وأيضاً وسيلة للمساعدة في إنقاذه. وباعتبارها وسيلة لفهم العالم فإن ممارسي التنمية المستدامة يدرسون التفاعلات بين الاقتصاد والبيئة والسياسة والثقافة والكيفية التي تؤثر بها هذه التفاعلات على الرخاء والدمج الاجتماعي والاستدامة البيئية. وبالتالي فيتعين على طلاب التنمية المستدامة أن يتناولوا بالدراسة مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك التنمية الاقتصادية والتعليم والرعاية الصحية وتغير المناخ وأنظمة الطاقة والتنوع البيولوجي والتوسع الحضري بين أمور أخرى.
وكوسيلة للمساعدة في إنقاذ العالم، تشجع التنمية المستدامة نهجاً شاملاً لتعزيز رفاهية الإنسان، وهو النهج الذي يتضمن تحقيق التقدم الاقتصادي ويعزز الروابط الاجتماعية القوية والاستدامة البيئية، وتصبح التحديات أكثر إلحاحاً مع تسبب الاقتصاد العالمي الضخم والسريع النمو في دمار بيئي هائل، ومع احتياج التكنولوجيات الجديدة إلى مهارات جديدة. ومن المرجح ألا يجد الشباب الذين يفتقرون إلى التدريب والمهارات المناسبة سوى فرص ضئيلة للبحث عن وظائف لائقة والحصول على دخل لائق.
وأنا أتوقع أن تصبح التنمية المستدامة المبدأ المنظم لسياستنا واقتصادنا بل حتى أخلاقنا في الأعوام المقبلة، وقد اتفقت حكومات العالم على وضع هدف التنمية المستدامة في قلب أجندة التنمية العالمية في مرحلة ما بعد عام 2015. ومن المقرر أن يتبنوا قريباً أهداف التنمية المستدامة، التي سوف تساعد في توجيه العالم إلى مسار أكثر أماناً وعدلاً في القرن الحادي والعشرين، وتماماً كما أثبت تبني الأهداف الإنمائية للألفية في عام 2000 فعاليتها العالية في الكفاح ضد الفقر والمرض، فإن أهداف التنمية المستدامة (التي سوف تخلف الأهداف الإنمائية للألفية في غضون عامين) تَعِد بمعالجة التحديات العالمية التي نواجهها في مجالات تتضمن الطاقة والغذاء والماء والمناخ وفرص العمل.
وأعتقد أيضاً أن تعليم الناس عالمياً وبالمجان على شبكة الإنترنت عن التنمية المستدامة من شأنه أن يساعد في تحريك الحلول العالمية. وتشكل الدورات العالمية على شبكة الإنترنت جزءاً من ثورة المعلومات الجارية في العالم- الثورة التي تعمل الآن على إعادة تشكيل التعليم العالي جوهرياً، وفي المقام الأول من خلال خلق قنوات جديدة تسمح للمزيد من الناس بالوصول إليه في أنحاء العالم المختلفة.
وأنا أعرف هذا من تجربتي الشخصية، فعلى مدى أغلب سنوات عملي كأستاذ لم تتغير تكنولوجيات التعليم كثيراً، إذ كنت أقف أمام طلابي لإلقاء محاضرة مدتها 57 دقيقة، ثم أفسحت السبورة السوداء الطريق أمام جهاز العرض الضوئي، ثم برنامج الـ"باور بوينت"، ولكن في ما عدا ذلك لم تتغير "تكنولوجيا" حجرة الدرس إلا قليلاً.
ولكن بقدوم تكنولوجيا المعلومات الجديدة، بدأ التعليم العالمي (وبطبيعة الحال التعليم على المستويات الأخرى) يتغير فجأة، والآن بات من الممكن أن تحتوي المقررات على الكثير من المعلومات- بيانات، وملفات فيديو، بل حتى دردشات حيّة مع خبراء في الجهة الأخرى من العالم. وبات بوسع المزيد والمزيد من الناس في أنحاء العالم المختلفة أن يحصلوا بالمجان على مواد تعليمية عالية الجودة لم تكن في ما سبق متاحة إلا للقِلة من المحظوظين، ويشكل هذا أهمية خاصة اليوم، لأن تحديات التنمية المستدامة سوف تتطلب مواطنين مطلعين ومتعلمين في كل مكان.
ووفقاً لبيانات حديثة، فإن الدورات الجامعية على شبكة الإنترنت وصلت بالفعل إلى طلاب في أكثر من 190 دولة، فمكنتهم من مشاهدة المحاضرات والإجابة عن الاختبارات والتفاعل مع الزملاء من الطلاب ومع الأساتذة. ويعمل التعليم على شبكة الإنترنت على تحويل حجرات الدراسة أيضاً، فالآن يستطيع طلابي في جامعة كولومبيا، بدلاً من مشاهدتي أحاضر لمدة 57 دقيقة، أن يشاهدوا المحاضرات على الإنترنت قبل موعدها، الأمر الذي يسمح بمناقشات متعمقة وأكثر ثراءً في حجرة الدرس.
وفي السنوات المقبلة، أعتقد أن كلاً منا سوف يضطر إلى أن يصبح قائداً في مجال التنمية المستدامة في بيته ومجتمعه وبلده، وسوف يكون لزاماً على الملايين من الشباب قريباً أن يساعدوا في حل مشاكل مثل تغير المناخ والمياه والطاقة والنقل والتعليم. وسوف يتعين على الآلاف من المدن ومئتي دولة في أنحاء العالم المختلفة أن تعمل على حشد كل أصحاب المصلحة- الحكومات، والمجتمعات، والخبراء، والشركات، والمنظمات غير الحكومية- لكي يضطلعوا بأدوارهم، وسوف يكون التعليم المفتوح على شبكة الإنترنت المفتاح الأساسي إلى نشر المعلومات التي يحتاج إليها كل أصحاب المصلحة.
ولهذه الأسباب، يسرني أيضاً أن تشكل الدورة التي أتولى تدريسها جزءاً من برنامج تعليمي أكثر عموماً في مبادرة شبكة حلول التنمية المستدامة، وهي مبادرة تحت رعاية الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وأتشرف بإدارتها شخصياً. وتعمل مبادرة شبكة حلول التنمية المستدامة على حشد الخبرات العلمية والفنية من الأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص في دعم حل مشاكل التنمية المستدامة على المستويات المحلية والوطنية والعالمية كافة.
ويتلخص أحد الأهداف الرئيسة لمبادرة شبكة حلول التنمية في الوصول إلى الطلاب في أنحاء العالم المختلفة من خلال تنمية ونشر المواد عبر الإنترنت لمناهج التنمية المستدامة. وهناك أكثر من عشر مؤسسات التزمت بالفعل بدمج عصر التنمية المستدامة في مقرراتها الدراسية، والمصممة خصيصاً بحيث تتلاءم مع ظروفها وقضاياها المحلية. وسوف تشجع مبادرة شبكة حلول التنمية المستدامة جامعات العالم على المشاركة في حقبة جديدة من التعليم العلمي عبر الإنترنت، وسوف يكون الهدف تجهيز شباب اليوم لاستخدام القوة التي سوف تنساب قريباً بين أيديهم بحكمة للمساعدة في التصدي للتحديات الكبرى التي يواجهها العالم.